يُحيي العرب الفلسطينيون في الداخل يوم السبت الموافق 29.10.2016 الذكرى الـ60 لمجزرة كفر قاسم والتي راح ضحيتها 49 شهيدًا وشهيدة، من كفر قاسم.

وقعت المجزرة الرهيبة في 29 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1956، خلال العدوان الثلاثي (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) على مصر، ففي حينه كان الحكم العسكري مفروضا على العرب الفلسطينيين في جميع أنحاء إسرائيل طيلة 8 سنوات، واستمر حتى العام 1966، فقرر الحاكم العسكري يومها فرض منع التجول المفاجئ على البلدة. وقُتل 49 شخصا كانوا عائدين من العمل إلى منازلهم بادعاء أنهم لم يلتزموا بالأمر العسكري، علما أنهم لم يكونوا يعرفون بوجود أي أمر عسكري، فأمر قائد الفرقة العسكرية بـ'حصدهم' وعندما استفسر أحد الجنود عن معنى هذه الكلمة قال له 'الله يرحمهم'.

إنها كفر قاسم، بكاملِ شموخها وعزَّتها يومَ كانت هادئة ومُسالمة يخرُجُ أبناؤها عند الفجر للعملِ خارج البلدة، بحثًا عن لقمةِ العيشِ، بانتظار نهاية اليوم للعودة إلى البيوت في أمانٍ ومحبّة.

كانَ كُلُ شيءٍ على ما يُرام، حتى لحظة الوصول إلى مداخل القرية، تستقبلهم زمرة جنودٍ يوقفون المركبات الداخلة إلى البلدة ويبدأون بإطلاق النيران صوب المركبة وباتجاه الجميع دون استثناء.

 

ها أنا ألتقي بجريح مجزرة كفر قاسم، محمود فريج، ليتحدث لموقع 'عرب 48'، مرّة أخرى عامان بعدهما أدخُل بيته من جديد، فأرى ملامحه تغيّرت، كبرُ كثيرًا، وليس للجيل فقط هذا التأثير الكبير، والتغيير، لكنه التعبُ والذكريات المُرَّة التي عاشها حتى قاربَ على الخامسة والثمانين من عمره، وهو اللقاءُ الثاني الذي يجمعني به، لكنه في كامل وعيه، أطالَ الله عمره، ومِن غير المفهوم ضمنًا أنّ رجلاً بقامته وكبريائه الذي لمسته، أن يستطيع تجاوز هذا الجُرح العميق الساكن في قلبه، ولن يُشفى منه أبدًا.

وكيفَ يُشفى من جراح الماضي، مَن تغلغلَ الوجعُ في أعماقه، وغاب معظمُ رفاق دربه وأحبته، رحلوا عن هذه الدُنيا، تاركين 'أبو الأمين' وحيدًا، فالكبار نالوا نصيبهم من وجع المجزرة، ورحلوا والوجع ينخرُ في القلوب والجسد، والآلام لا تفارقهم، وصورة الماضي تلاحقهم أينما حلّوا.

عامان غبتُ عنه، فوجدته شخصًا آخر، بدا التعبُ على مُحياه، صوته ونبراته، هذا ما لمستهُ ومعالمه وكلامه وحديثه، هذه المرّة لَم يَعُد يحتمل اقتطاعَ أجزاءٍ من روحه، كلما تحدَّث عن ماضيه، وبالأخصِ عن أخيه الشهيد أحمد فريج، بينما هو، أي محمود، ابنُ الأربعة والعشرين عامًا آنذاك، يوم أصابته رصاصة في فخذه، أقعدته في الفراش شهرا ونصف الشهر، في المشفى، لكنّ الوجعّ بالنسبةِ له لم يكن ألم الوجع الذي شعرَ بِه، عندما نزفَ طويلا لليلةٍ كاملة، بل وجعه في فراقه رفيق دربه، شقيقه ومؤنس وحدته، أحمد. أمَّا اليوم وقد عاشَ 60 عامًا بعيدًا عن أحمد، إلا أنه لم يزل يشتاق لشقيقه، ويتذكر ملامِح الطفولة في عينَيه، ويتوقف عن الكلام، فحديثُ الشجون وخطابُ الأحبةِ والشوقُ إلى الماضي، وعهد الطفولة والصبا، وبينهما تفصلُ مجزرةٌ رهيبة ارتكبت في التاسع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر 1956، والتي راح ضحيتها 49 شهيدًا وشهيدة، من كفر قاسم الفلسطينية الثكلى، كُلُ هذا وكأنما أطنانٌ مِن الألمِ تسكُنُ قلبه المُتعَب والمُنهَك بالجراح.

حوار الذكريات

محمود فريج قبل عامين

هذه المرّة لم أكُن في كفر قاسم لوحدي، رافقتني ابنة مدينة الهداء، صديقتي روز عامر، وهي حفيدة الشهيدة خميسة عامر، وصديقتي صديقة لجميع أهالي كفر قاسم، فالعشرةُ والمحبة تجمعهم، وفصولُ المجزرة الرهيبة تجعلهم جسدًا واحدًا متألمًا لما وقع في البلدة التي كانت وادعة، قبل أن تُقترف الجريمة.

بيني وبين نفسي قررتُ ألا أثقل على محمود فريج 'أبو الأمين' الأسئلة، اختصرتها، كي أنظُر إليه أكثر، وكي أعيش ما يقوله، وما يشعر بِهِ مِن ألمٍ عميق.

عرب 48: هل لا تزال تذكر ماذا حدث معك؟

أتذكر ما حدث معي، ولا شك أنّ هذا الأمر لا يُنسى، لكن من كثرة ما تحدثتُ عن المجزرة، صار يشعُر الإنسان أنه منتقَد، أنا أنتقد نفسي، أنني تحدثتُ عن المجزرة كثيرًا.

عرب 48: هل تشعُر أنّ الجيل الجديد يعرف عن المجزرة، يقرأون ويتابعون؟

أنا في الحقيقة في السنة الفائتة لم أشارك في إحياء المجزرة، ومن وجودي في المسيرة دائمًا 'أحس أنّ الصغير مهتم أكثر من الكبير'.

عرب 48كيف تشعر بالظلم الذي وقع علينا كأهالي كفر قاسم وكشعب؟

لقد ظلمنا، لكن من يرفع الظلم عنّا، الله وحده يرفع هذا الظلم. لغاية اليوم لم يعترفوا أنهم قاموا بضربنا، فليعلنوا في (الجرايد) ويتأسفوا، على مجزرة كفر قاسم. من يعرف الحقيقة هو من وقع فيها، ومن عاشها، هم لا يؤمنون بها، تحدثينهم عما جرى فيقولون إن هذا غير صحيح. لا يمكن أن يضربوا شخصا عائدا من عمله، واليوم أيضًا يضربون.

يضيف أبو الأمين: 'أنا عندما أسمع وقوع حدث أقول غير صحيح، لم يضرب أحد، إنما يختلقون الأمر اختلاقا، كما ادعوا في حينه، قبل 60 سنة كانت هناك حجارة؟!'

عرب 48: ما الهدف من هذه المجزرة برأيك؟

الهدف ترحيلنا، والتخطيط للهجوم على مصر، لكننا لم نكن نعرف في السياسة في حينه، لم نكن نعرف أنهم سيضربون مصر، كانوا بسطاء، لم يكن إذاعات ولا حتى ساعات، لو كنّا نعرف لما اقتربنا من البلدة عند الساعة الخامسة.

عرب 48: حدثنا قليلاً عن تجربتك في المستشفى؟

أمضيتُ في المستشفى ما يُقارب الـ45 يومًا، يرافقني الوجع والحزن على شقيقي أحمد والمصيبة التي حلَّت بالقرية. ولاحقًا أخبروني أنهم عقدوا صُلحًا بين العرب واليهود في القرية، وعوَّضوا الجرحى بـألف ليرة وعوائل الشهداء بـ5 آلاف ليرة، على اعتبار أنّ المبلغ المدفوع هو فدية لِما لحق بِنا من أذى، وذبحوا الخِراف وطبخوا للاحتفال بالصلحة. من جهةٍ أخرى استُدعي شدمي إلى المحكمة، حيثُ حُكم عليه بقرشٍ واحد جزاء أهدار دماءِ 49 عربيًا فلسطينيًا!

وكان بين المصابين إسماعيل العقاب. وبما أننا كنا في ظل الحكم العسكري، لم يكن هناك مَن يأتي ويعطي الموافقة على قطع رجله، وأخبروني أنه سيتضرر في حال لم يتم قطع رجله، فوافقتُ وأقنعته، واعتبرتها رحمةً له، كنتُ معه في غرفة واحدة، كنا بسطاء وجهال سياسة، أوصيتُ معلمنا (المشغل) أن يعطينا 'مصاري' لتحويلها للأولاد، بعد انتهاء الشهر، كان همنا إطعام الأولاد.

ليلة الجريمة

لأول وهلة اعتقدتُ أنّها رصاصات زائفة لإخافتنا، وإذا بي أصابُ برجلي، وعرفتُ ساعتها أنّها ليست للإخافة فقط، وسمعتُ الضابط يقول لمطلِقي النيران، 'خُسارة ع الفشك'، أعطوا كل واحد رصاصة في رأسه، وارتاحوا، وفي لحظةٍ قبل إطلاق الرصاصة في رأسي، مرّ راعي غنم يسوق قطيعه، فأطلقوا النار باتجاه الراعي وابنه، وأطلقوا رصاصاتٍ أخرى باتجاه شقيقي ورفيقيْنا، ونسوا أنني ممددٌ على الأرض، بلا حراك، فقد شاءت الأقدار ألا أفارق الحياة، وكلما مرّ شخصٌ من أمامي كنتُ أميِّزه من صوته، وأقولُ في نفسي 'الله يرحمه'، وفي لحظةٍ مرّت سيارة فيها أكثر من 20 سيدة وفتاة، أنزلوا الركّاب وأطلقوا النيران على النساء ومعهم أربعة أطفال، قاموا بحصدهم جميعًا، إلا واحدة مِن بين الفتيات، أصابتها الرصاصة في أذنها، وقد نجت من الموت. وهكذا استمرَ القتل حتى الساعة التاسعة مساءً تقريبًا، بعد أن تأكَّدوا أنّ جميع العمال العائدين أصبحوا في عِداد الموتى'.

وأخيرًا ترك الجنود المكان، فقمتُ وتفقَّدتُ المكان، بحثتُ عن أخي، ناديته 'أحمد' وناديتُ صديقي 'علي'، لكنّ أحدًا مِن أحبتي لم يُجب. أما صديقنا الثالث فلم أعثُر عليه، سألتُ نفسي: 'ليش قتلونا؟!'، مررتُ مِن فوق الجثث وغربت إلى كرم الزيتون والصبر، اغمضتُ عيوني، لكنّ قلبي لم يستكن، كنتُ خائفًا، وقلقًا'.