روى الشاهد على مجزرة كفر قاسم، الحاج صالح صرصور، لـ"عرب 48" فصول المجزرة الرهيبة التي وقعت في 29 تشرين الأول/ أكتوبر من العام 1956، عشية العدوان الثلاثي (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) على مصر، حيث كان الحكم العسكري مفروضا على العرب الفلسطينيين في جميع أنحاء إسرائيل طيلة 8 سنوات، واستمر حتى العام 1966، وفي ذلك اليوم المشؤوم قرر الحاكم العسكري فرض منع التجول المفاجئ على كفر قاسم.

وقُتل 49 شخصا من كفر قاسم كانوا عائدين من العمل إلى منازلهم بادعاء أنهم لم يلتزموا بالأمر العسكري، علما بأنهم لم يعرفوا بوجود أي أمر عسكري، فأمر قائد الفرقة العسكرية الإسرائيلية بـ'حصدهم' وعندما استفسر أحد الجنود عن معنى هذه الكلمة قال له 'الله يرحمهم'.

تحل ذكرى مجزرة كفر قاسم في 29 تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، ذكرى بقيت في ذاكرة الكثيرين من أبناء العرب الفلسطينيين بتداعياتها وألمها. ولا يزال الجرح نازفا في قلوبهم والذكرى راسخة، ذكرى جسدت حكاية طال عمرها السبعين عاما، هي حكاية فلسطين.

وقال صرصور لـ"عرب 48" إنه "في يوم الإثنين الموافق 29.10.56 وبعد أن صدح صوت الأذان من المسجد خرجت إلى عملي بالفلاحة حيث كنت أجمع القطن على دراجتي الهوائية، كانت وسيلة النقل بالنسبة لي، كان الجو باردا جدا د قبل طلوع الشمس، تلفعت بعباءة كبيرة، وحملت على كتفي شنطة وضعت فيها الزوادة وبعض الأمتعة. كنت برفقة العشرات من أبناء بلدتي كفر قاسم والمنطقة، بعضهم من العمال وغالبيتهم من الفلاحين".

وأضاف: "أعطونا الأمان (الجيش) ومن ثم أطلقوا علينا الرصاص الكثيف، سقط من سقط، وفرّ من فرّ، ولم تسعفهم الاستجداءات ولا الصراخ والعويل ولا أنين المصابين، واستمرت المجزرة، 49 شهيدا حصيلة مجزرة كفر قاسم، 61 عاما من الذكرى والجرح لا زال مفتوحا".

هلا عرفتنا على نفسك؟

صرصور: أنا الحاج صالح صرصور (أبو مروان) ابن 79 عاما، أسكن في كفر قاسم، وجذوري من هذه البلدة، بلد الشهداء، لدي 9 أبناء، 5 بنات و4 أولاد و20 حفيدا، عملت في الفلاحة 15 عاما ونيف، ومن ثم انتقلت إلى العمل في البناء لمدة أكثر من 30 عاما، وكنت شاهدا على المجزرة، وبلطف من الله لم أُقتل حيث أن دماء الشهداء سالت على جانبي، واستشهد 11 شخصا من أقاربي في المجزرة.

ماذا تتذكر من تفاصيل يوم المجزرة؟

صرصور: في يوم المجزرة، كنا نعمل في مفرق "يهود"، كنا العشرات من العمال، وأثناء عملنا كنا نلاحظ العشرات من المركبات العسكرية تتجه إلى الجنوب للبدء بالعدوان الثلاثي على مصر.

انتهينا من العمل، وعزمنا على العودة إلى كفر قاسم على دراجاتنا الهوائية حوالي الساعة الرابعة والنصف بعد العصر، كنا نحو 12 شابا من نفس الجيل، كان عمري 18 عاما، ودراجتي لم تكن بأفضل حال، حيث سبقني من كانوا معي وبقيت لوحدي. مرت أمامي سيارة لشخص من كفر قاسم، مسكت بعربته كي تجرني وأنا على الدراجة، لأستريح، بعد أمتار قليلة وقف ليتحدث مع معلمه في العمل، وبدوري وضعت دراجتي في عربته وركبت معه. وقبل المجزرة بدقائق، اقتربنا من حاجز عسكري لجنود ما يسمى "حرس الحدود" على أحد المفارق القريبة من البلدة، إلا أن الضابط أشار لنا بالاستمرار، لم نكن نعلم شيئا عن نواياهم في حينها، لكن في الفضاء كان ثمة إحساس غريب.

كانت أراضي كفر قاسم كلها طرق صعبة، جبلية ملتوية، وعند وصولنا أعلى المنحدر رأيت أمامي أصدقائي الذين سبقوني على دراجاتهم يقفون صفا واحدا أمام حاجز من الجنود المدججين بالأسلحة، عند النصب التذكاري.

متى أطلق الرصاص؟

صرصور: فجأة، عند اقترابنا من الحاجز بنحو 200 متر، سمعت صوت إطلاق رصاص كثيف صوب الشباب ذاتهم على الدراجات، بعضهم أصيب وبعضهم قتل على الفور، والبعض استطاع الفرار، صوت صراخ وعويل واستنجاد إلا أن ذلك لم يمنع من الجنود استمرارهم بارتكاب المجزرة. أنزلوا أحد الشهداء أمامي، كان في عربته، أطلقوا عليه الرصاص من مسافة صفر، مع تأكيد على القتل.

أين كنت أنت؟ وماذا حصل معك وقتها؟

صرصور: كنت في العربة مع ستة مواطنين من سكان كفر قاسم، عند اقترابنا من الحاجز وبعد إطلاق الرصاص صرخ علينا أحد الضباط العرب وشتم السائق وقال وهو يسب ويشتم بلهجة عربية لماذا وقفت؟ أكمل السير. بعد صراخ الضابط انتابنا شعور بالخوف الشديد، أكمل السائق سيره وعند المفرق حين انحنى السائق ليدخل إلى الطريق المؤدية لكفر قاسم، في وقت أعطونا الأمان ومن ثم أطلقوا علينا النار، كان الرصاص يخترق السيارة دون أن نعلم مصدره، وبكثافة رهيبة، حتى تعطلت عجلات السيارة وتدحرجت ووقفت لوحدها. استشهد من كان يجلس بجانبي وهو الشهيد محمود عبد الغافر من كفر برا، حرّكت جسده مناديا إياه "قوم يا محمود خلص الطخ" إلا أنه كان غارقا بدمه وارتقت روحه إلى السماء.

ماذا حصل بعد المجزرة بدقائق؟

صرصور: توجهت إلى منزلنا مذعورا من المنظر الذي رأيته، لم أستطع أن أقود دراجتي من الخوف. سرت إلى داخل البلدة القديمة من الشارع الرئيسي، رأتني دورية للجنود وكشفتني ولحقت بي بسرعة خيالية، في حينها ألقيت بالدراجة وهربت مسرعا على الأقدام، كان بيتنا قرب المكان، حتى تمكنت من الهرب والاختباء فيه.

لم يكن الناس في ذلك الوقت يعلمون ما حدث في البلدة، حتى انتشر الخبر في اليوم التالي. كان الجيش يريد أن يخفي جريمته بدفن الشهداء في مقبرة بعيدة بالقرب من جلجولية وإطلاق إشاعات بأن القتلى كانوا باشتباك معه، إلا أنهم لم يستطيعوا حجب الحقيقة.

كيف شعرت بعد ذلك المشهد الرهيب؟

صرصور: لم أعرف النوم وسيطرت علي مشاعر الخوف الشديد، تغيرت حياتي ولم تعد طبيعية.

ما هي أسباب ارتكاب المجزرة، حسب اعتقادك؟

صرصور: ليس هناك أدنى شك أن المجزرة ارتكبت بهدف تهجيرنا من هذه البلاد، إلا أننا استطعنا الصمود، وثبّتنا جذورنا هنا.

ما هي الذاكرة السيئة التي انخرطت في ذاكرتك؟

صرصور: صور الدماء والجثث المتساقطة، وصوت إطلاق الرصاص لن أنساه في حياتي، والخوف والرعب الذي كان بداخلي يوم المجزرة وبعدها بأشهر، لا أزال أتذكره وكأنه كان بالأمس. إضافة إلى أنه في حرب الأيام الستة، عند سماعنا عن بدء الحرب كان لدينا ذات الشعور يوم المجزرة، إذ أننا خفنا أن يعاودوا الكرّة ويستغلوا الحرب لارتكاب مجزرة أخرى.

هل تغيرت سياسة إسرائيل نحو أهالي كفر قاسم منذ المجزرة؟

صرصور: لا، لم يتغير أي شيء منذ المجزرة، فسياسة حكومات إسرائيل المتعاقبة مستمرة بالتهميش والقتل والتمييز تجاه مجتمعنا العربي الفلسطيني بالداخل والخارج، وهم يضايقوننا بالسكن والاقتصاد ويقتلون ولا يحاكمون.

كيف تقيّم إحياء الذكرى اليوم؟

صرصور: للأسف، يضعف إحياء الذكرى من عام لآخر بين أبناء البلدة خصوصا والمجتمع العربي عموما. كان إحياء الذكرى في السابق يحظى باهتمام أكبر، وكل هذا يرجع إلى سياسة الدولة التي تتعمد ملاحقة المواطنين العرب الذين يحيون هذه الذكرى الوطنية بهدف تغييب الوعي الوطني.

اقرأ/ي أيضًا | عصية على النسيان: إحياء الذكرى 61 لمجزرة كفر قاسم