* الفردنة والشخصنة ورجال الأعمال كانوا اللاعب المركزي في الانتخابات

* مكانة الحمولة تراجعت وكذلك دور الأيديولوجيات والأحزاب

* المقلق ليس تنامي العنف فقط بل شرعنته كجزء من اللعبة

* تعاظم دور الشباب والنساء مؤشر إيجابي يجب تعزيزه


"سوسيولوجيا الانتخابات المحلية" إنْ صحَّ التعبير، فإننا بحاجة إلى أكثر من خبير في العلوم الاجتماعية والتطور البشري، لتحليل مظاهرها وتجلياتها والوقوف عند معانيها ومؤشراتها ورصد أبعادها وتداعياتها على مجتمعنا.

وما يزيد المشهد تعقيدًا ليس فقط أنّ هذه الانتخابات تجري في مجتمع عربيّ المنشأ، شرقيّ الطابع تحكمه منظومة قوانين وإجراءات ليبرالية غربية، بل لأنه، بالإضافة إلى كل ذلك، بقايا شعب وكيان دمرته النكبة التي قوّضت الأعمدة الأساسية لبنيانه الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وحولته إلى أقليّة في وطنه الواقع تحت هيمنة الدولة الكولونياليّة التي أنشأت على أنقاضه.

د. نهاد عليّ

هذا الوضع خلق واقعًا من التطور الاجتماعي "المشوّه" للمجتمع، بعد أن سحبت من تحته الأرض التي كانت تشكّل القاعدة الاقتصادية التي يقوم عليها بنيانه الاجتماعي، وغابت عنه المدينة بصفتها الحاضنة الطبيعية لحالة التطور الطبيعي أو القسري، التي تميّز انتقال المجتمع من الإقطاع إلى البرجوازية ومن الزراعة إلى العمالة والخدمات.

ولا عجب، والحال كذلك، أن يبقى مجتمعنا حبيسًا في قراه التي تحولت إلى فنادق للعمال الذين يشتغلون في المدن اليهودية، وتضخّمت عدديا بغياب المدينة التي يمكن الهجرة إليها، لتصبح قرى كبيرة تحمل تسمية المدن.

وبدون شك، فإنّ فرملة عمليات التطور الطبيعية للمجتمع واحتجاز تطوّره، كرّسا القوالب الاجتماعية القديمة مثل العائلية والحمائلية، التي جرى استغلالها سياسيًا لتعميق سياسة فرق تسد الاستعمارية التي استعملتها السلطة كإحدى وسائل الضبط والسيطرة ضدنا.

وفي هذا الإطار، عمدت السلطات الإسرائيلية منذ استبدال المخاتير بمجالس محلية، إلى تعيين رؤساء مجالس معيّنين من زعماء عائلات موالين لها، لتكريس تبعية هذه المجالس من جهة وفرض قواعد لعبة عائلية في إطارها من جهة ثانية.

وإذا كانت انتفاضة يوم الأرض 76 قد فكت تبعية هذه المجالس للسلطة وكسرت عكاكيزها، فإنّ اللعبة الانتخابية ما زالت تجري وفق القواعد العائلية التي رسختها وساهمت السلطة في تعزيزها على مدى السنين، وذلك رغم دخول الأيديلوجيات والأحزاب بعد يوم الأرض عاملًا إضافيًا وأساسيًا في بعض الأحيان.

في ممر الخروج من الانتخابات الأخيرة التي قد نتفق وقد نختلف حول قراءة نتائجها والاستنتاجات المستفادة منها، يبقى الثابت في هذه القراءة هو تقييم دور الأديولوجيات والأحزاب ودور ومكانة العائلية والحمائلية، وذلك إلى جانب ظواهر أخرى مثل الشباب والمرأة وغيرها.

وللمساهمة في قراءة نتائج الانتخابات والتوقف عند أهم استنتاجاتها، كان هذا الحوار مع أستاذ علم الاجتماع في جامعة حيفا، د. نهاد علي.

عرب 48: هل العنف الذي شاهدناه نتاج لنتائج أم استمرار لحملة الانتخابات؟

لنبدأ من فترة ما قبل الانتخابات، أعتقد أننا أمام حالة وحيدة حدثت في المجتمع العربي واليهودي، والتي أنتج فيها التهديد انسحاب مرشح صاحب حظوظ كبيرة للفوز، للأسف الشديد هذه الحالة وحالات أخرى لم تأخذ حيزًا جديًا في الإعلام وهي قضايا خطيرة، يجب أن تُدرس وأن ويُحذر من إسقاطاتها، وكونها تحدث خلال فترة الحملة الانتخابية لا تؤخذ الصدى اللازم، واليوم، نقرأها بشكل أكثر عقلانية، أكثر جدية، ولا أستبعد أن تتحول هذه الطريقة إلى نهج في الانتخابات المقبلة بعد 5 سنوات.

عرب 48: ماذا تعني بالإسقاطات على انتخابات الكنيست والمجتمع؟

لم تنجح القائمة المشتركة في إنتاج تحالفات داخلية ما بين مجموعات، رغم النجاح في بعض الحالات، ولكن بصورة عامة فإن تراجع الأيدولوجيات وتراجع الأحزاب وعدم وجود القائمة المشتركة بشكل جدي في انتخابات السلطات المحلية، ستكون له إسقاطات كبيرة على الانتخابات المقبلة، في السياسة لا يوجد فراغ، فهذا الغياب والتغييب أدخل عناصر جديدة إلى الانتخابات، منها المرشحون المستقلون، ومنها مرشحون مقربون من حزب العمل والأحزاب الأخرى، وعمليًا، هذا التراجع لا يترك فراغًا وإنما يفسح المجال أمام المستقلّين ومستقلين مبطنين مقربين من أحزاب صهيونية للدخول مكان الأحزاب، وهكذا تكون قضايا هامة بالنسبة للحكم المحلي تم تغييبها من النقاش ومنا كأقلية، وهذا ينعكس في إطار البرامج، نلاحظ غياب المواضيع الهامة مثل الميزانيات وحرماننا منها، العنصرية تجاه الحكم المحلي العربي، هذه القضايا لم تطرح على الطاولة وسيكون لها إسقاطات، ولذلك أي مجموعة عربية يهودية تقرأ الانتخابات المحلية بشكل صحيح ستفكر في خوض انتخابات الكنيست ضمن قوائم منفصلة، وكذلك غياب قضية الفساد في السلطات المحلية العربية، ونلاحظ أن المجتمع سواء العربي أو اليهودي لم يحاسب المتهمين بقضايا الفساد، وهي قضية خطيرة في الحكم المحلي، ونحن نعلم من تقارير مراقب الدولة أن مؤسسات الحكم المحلي من أكثر المؤسسات فسادًا في إسرائيل، وهذه القضايا لم نلاحظ وجودها على الأجندة، وهذا له تأثير، بالإضافة إلى أنّ غياب الأحزاب والأيدلوجية، لا أقول يعطي ضوءًا أخضر، لكنه يعطي ضوءًا أصفرَ يميل إلى الأخضر لمجموعات تتشكل بشكل جدّي لخوض انتخابات الكنيست.

عرب 48: كثيرون يعتقدون أنّ مكانة الحمولة تعزّزت ومكانة الأحزاب هي التي تراجعت في هذه الانتخابات، ما اعتقادك أنت؟

علي: الأحزاب هي الأخرى تراجعت، والمعادلة لا تشمل الحمولة والأحزاب فقط، وكل تراجع بمكانة الحمولة يجب أن يكون لصالح الأحزاب وبالعكس، ما حدث هو تراجع في الأيديولوجيات والأحزاب وتراجع في مكانة الحمولة، أيضًا.

في ما يتعلق بالحمولة، فهناك أربعُ مؤشرات لتراجع الحمولة في هذه الانتخابات، المؤشر الأول هو تعدد المرشحين من نفس الحمولة في نفس البلد، ففي أكثر من عشر بلدات عربية كان مرشحان اثنان من نفس الحمولة للرئاسة، ولا نتحدث عن قوائم العضوية التي شملت العشرات، وحتى في انتخابات الجولة الثانية هناك مرشحان من نفس الحمولة يتنافسان ضد بعضهما البعض، وهذا مخالف للمنطق الحمائلي الذي تتجنّد وفقه الحمولة كلها خلف مرشح واحد بتوجيه من كبار العائلة.

المؤشر الثاني، يتبدّى في التصويت وبخلاف انتخاباتٍ كثيرة ماضية نجد في كثيرٍ من الحالات أنّ الرجل وزوجته أو الرجل وابنه يصوت كل منهما لمرشح مختلف، وهي حالات تكثر إذا لم يكن مرشح من العائلة ذاتها، وأنا لا أتحدث هنا عن ما يسمى، مع تحفظي على المصطلح بـ"خيانة الحمولة"، إضافة لذلك نجد أنّ 20-30% لا يصوتون للحمولة حتى لو كان هناك مرشح للحمولة ذاتها.

المؤشر الثالث هو الارتفاع الهائل في نسبة النساء اللاتي ترشحن في تحدٍ للهيمنة العائلية التي تقوم على مبدأ الأبوية الذكورية، حيث ترشحت 27 امرأة انتخب منهن 19 وثمانية في الطريق وفق اتفاقات تناوب، وثلاثة منهن ترأسن قوائم.

أما المؤشر الرابع فهو تحول الشباب إلى المعترك كلاعب مركزي في هذه الانتخابات.

عرب 48: يجري تصوير تلك الكمية من المرشحات النساء وكأنها إنجاز هائل، علما بأنّ الحديث يجري عن ما يقارب 80 مجلسًا وبلدية تضم مئات الأعضاء، وأن مجمل النساء المرشحات أو الفائزات لا يتعدى عددهن عدد أعضاء بلدية الناصرة لوحدها ولا يشكلن 2-3% من مجمل أعضاء المجالس.

علي: مقارنة مع الانتخابات السابقة التي كانت فيها النسبة 0.6% هذا إنجاز كبير، وهو مؤشر قوي على تراجع الحمولة.

عرب 48: عفوا لأني أقاطعك مرة أخرى، ولكن لم نسمع عن قوائم شبابية مستقلة تحدّت العائلية وخرجت من تحت عباءتها.

علي: بغض النظر عن ذلك، فإنّ هناك عشرات المرشحين من الشباب من جيل 27- 35 عاما، واليوم داخل الحمولة هناك "ثورة" على كبار السن.

عرب 48: ما ذكرته هو تغيير داخل الإطار العائلي ذاته الذي ما زال هو المهيمن، وهو تغيير شبيه باستبدال مخاتير العائلات بالأكاديميين والذي ساهم في تجديد شباب الحمولة وإطالة عمرها.

علي: اليوم، هناك نكوص غير طبيعي في دور الأكاديميين في الحكم المحلي، ونحن نتحدث عن تراجع في دور الحمولة، تراجعٌ في دور الأيديولوجيات والأحزاب، مقابل سنوات الثمانينيات والتسعينيات حيث كان مرشح الحزب ينافس مرشح العائلة في 80-90% من البلدات العربية، حتى لو كان هذا الحزب متحالفًا مع عائلة، أما اليوم، فإنّ مصطلحات سياسية مثل التمييز وتمييز في الميزانيات لم تسمع في الانتخابات على الرغم من أن حكمنا المحلي يعاني من شح كبير في الميزانيات، ومردُّ ذلك إلى غياب الأيدولوجيات والأحزاب.

والسؤال ما الذي حل محل الأحزاب والحمولة والأكاديميين، إذا ما علمنا أن لا فراغ في الطبيعة والسياسة والمجتمع، من عبّأ هذا الفراغ هو الفردانية والشخصنة ورجال الأعمال، هذا هو اللاعب المركزي في هذه الانتخابات، وهو ما يزيد احتمالات الفساد في مجالسنا المحلية.

الأعمال لديهم إمكانيات اقتصادية هائلة، وهم يتعاملون مع الانتخابات على أنّها مشروع استثمار، أدفع مليوني شيكل ولكن أستردُهم في سنة واحدة والسنوات الأربع المتبقية تكون بمثابة ربح صاف.

هؤلاء حلّوا محل الأكاديميين على ما يبدو، أو أن بعضهم أكاديميون دخلوا في بوتقة رجال الأعمال فخسروا قبعة الأكاديمي، ويبدو أن الأكاديميين لم يستطيعوا إجادة قواعد اللعبة، فاضطروا إلى اخلاء مواقعهم لمظاهر الفردنة والشخصنة ورجال الأعمال ورجال المال الذين فرضو أنفسهم على اللعبة العائلية.

في الانتخابات الحالية صرفت ملايين الشواقل التي دفعت من قبل رجال الأعمال من أجل الوصول إلى الكرسي، ومن الجدير التنويه بأنه ليس بالضرورة أن يكون رجل الأعمال هو المرشح المباشر، ففي أحوال كثيرة تكون مجموعة من رجال الأعمال حول المرشح، وهذا يزيد من منسوب الفساد، فيدفعون مليونًا ويستردونهم ملايين، تلك هي معادلة "المال والسلطة" المعروفة في إسرائيل على مستوى الانتخابات القطرية والمحلية منذ زمن بعيد، أصبحت عندنا، أيضًا، واقعا ملموسا بعد أن استغلت الحمولة ودحرت الأحزاب والأيديولوجيات.

عرب 48: ولكنك تحدثت عن ظواهر إيجابية، أيضًا، مثل تنامي دور الشباب والنساء؟

علي : نعم، هذا دورٌ مرشّحٌ للتنامي مستقبلا، وهو تعبير عن الواقع الاجتماعي المتغيّر الذي تحتل فيه تلك الفئات دورًا مركزيًا، وهي مؤشرات تبشر ببوادر إيجابية، أيضًا، ونستطيع القول، ولو بتواضع، إنّ تراجع الحمولة والأحزاب لم يكن لصالح الفردنة والشخصنة ورجال الأعمال و"السلطة والمال" فقط بل لصالح الشباب والنساء، أيضًا.

عرب 48: برزت في هذه الانتخابات أهمية التمثيل في المدن المختلطة، حيث تحققت نتائج جيّدة في بعضها مثل اللد والرملة؟

علي: في اللد والرملة تحققت نتائج جيدة لأن العرب هناك خاضوا في قائمة واحدة، وليس لأن الأحزاب توحدت، فالمكان الوحيد الذي توحدت فيه الأحزاب هو نتسيرت عليت، بينما فشلت في التوحد في باقي المدن المختلطة وخسرت من تمثيلها في حيفا لهذا السببـ ولم تحقق تمثيلا لائقا في غيرها.

عرب 48: هل من مميزات إضافية للمعركة الانتخابية الأخيرة؟

علي: برزت عدة مظاهر سلبيّة، منها المبالغة في عدد المرشحين التي وصلت حد التضخم في بعض البلدان، إلّا أن المظهر الأخطر هو ارتفاع منسوب العنف وتحوله إلى جزء لا يتجزأ من اللعبة، ورغم أنه من الصعب عليّ استعمال المصطلح، ولكن بطريقة أو بأخرى كان هناك شرعنة للعنف، ولا نستطيع القول إنّ العنف كله مصدره شباب صغار، فهناك إعطاء شرعية من الكبار.

والخطير في الأمر العنف تحول إلى جزء شرعي من اللعبة بشكل يتجاوز الخطوط الحمر، ومثال قلنسوة هو الأبرز حيث اضطر أحد المرشحين في قلنسوة، رغم أن حظوظه كانت لا بأس بها، إلى سحب ترشيحه بعد إطلاق النار عليه وعلى زوجته، أيضًا.

عرب 48: وما هي أهم الاستنتاجات وإلى أين نتجه؟

علي: لا يمكن أن نقول إنّ مجتمعنا كله نقطة سوداء كبيرة، فهناك أشياء إيجابية واشياء سلبية ودورنا يجب أن يتركز في دفع العوامل الإيجابية التي أتينا على ذكرها، و الاستنتاج أن الحكم المحلي هو رافعة أساسية لمجتمعنا ولذلك يشكل ساحة عراك أساسية، فنسبة التصويت بلغت عندنا 86 في المئة، مقابل 54 في المئة في الوسط اليهودي، وهذا دليل على الأهمية التي يوليها مجتمعنا لهذه الساحة في طل التهميش الذي نحظى به في الانتخابات القطرية.

ولو سألتني عن انعكاس النتائج على انتخابات الكنيست، لقلت إنها تعكس خيبة أمل من القائمة المشتركة التي كانت غائبة تماما، وإنها "تبشّر" أو "تنذر"، اقرأها كما تشاء، بتشكيل أكثر من حزب عربي وعربي- يهودي جديد في الانتخابات القادمة حتى لو بقيت القائمة المشتركة.

عرب 48: ماذا عن مشاهد العنف الجماعي، كيف تفسّرها؟

هذا امتداد لظاهرة العنف المستشري في المجتمع العربي، وهي ظاهرة لا يمكن إنكارها. فبغياب الدور الأساسي للشرطة، ارتفعت وتيرة العنف. كما أنّ فترة الانتخابات تولّد تنافسًا كبيرًا من الطبيعي أن تزداد فيه وتيرة العنف، فالانتخابات وسيلة لتجديد إثارة العنف في مجتمعنا، وليست المولد الأساسي، بل لها دور في عملية التجييش واستفحال العنف في المجتمع العربي، ولأنّ التنافس كبير، تسمح القيادات لنفسها أن تغض الطرف عن العنف الموجود وهو ليس عنفَ مصادفةٍ، بل عنفٌ مخططٌ له، بمعرفة المرشحين الكبار، وأنا لا أقبل التحليل الذي يقول إنّ العنف جزء من أعمال الشباب الصغار، وأعتقد أن المرشحين لديهم الإمكانية الكبرى في خفض وتيرة العنف عن طريق أدوات صغيرة جدًا. العنف أثبت أنه وسيلة ناجحة للوصول إلى أهداف معيّنة، خاصة بغياب دور الشرطة والقيادات العربية، فإنه يتحول إلى وسيلة مربحة، وإذا كان العنف وسيلة ناجحة في الحياة اليومية فكم بالحري في المنافسة السياسية، وكثر من استغلوا ظاهرة العنف وركبوا على هذه الموجة في الوقت الذي يعجز فيه المجتمع عن كبح العنف الذي تحوّل إلى وسيلة شرعية، للأسف، الشديد.