بعد مرور ما يقارب الاسابيع الثلاثة، على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية وسط احتفال عربي واقليمي ودولي غير مسبوق، وبعد مرور اسبوعين ونيّف على تكليف الرئيس فؤاد السنيورة بتشكيل الحكومة، يتطلع اللبنانيون الى ضرورة التعجيل بتأليف حكومة الوحدة الوطنية، كما نص عليها اتفاق الدوحة، وصولاً الى تنفيذ البند المتعلق بقانون الانتخاب قبل البدء بالحوار الوطني الذي يرعاه رئيس الجمهورية.

اننا نرى في عدم تجاوب الاطراف المعنية مع الجهود المبذولة للتأليف أياً تكن الاسباب والاعتبارات نكسة كبرى لاتفاق الدوحة، وقذفاً لمصير البلاد في المجهول، وتعزيزاً للهواجس التي تتنامى لدى مختلف الاطراف، فالبعض يرى في العرقلة محاولة للالتفاف على اتفاق الدوحة بعد انتخاب الرئيس، والبعض الاخر يتهم المعرقلين بانهم مستمرون في خطتهم لاضعاف المؤسسات ومنعها من الاضطلاع بمسؤولياتها، فيما المواطن اللبناني حائر ضائع يفقد ثقته بشكل متسارع بالطبقة السياسية التي تضع مصالحها الذاتية فوق مصلحة الوطن العليا.

وفي هذا الاطار، وفي ضوء مختلف التسريبات الاعلامية وغير الاعلامية الموزعة كالنظر في جنبات حياتنا الوطنية ينبغي التأكيد على ما يلي:

1. ان الاستمرار في الفراغ الحكومي طيلة هذه الفترة يزيد من حال الاحتقان الشعبي والاهتزاز الامني اللذين يعاني منهما اللبنانيون ، واللذين يهددان بادخال البلاد في نفق مظلم نعرف بدايته ولكننا لا نعرف نهايته.

2. ان التمييز داخل الحكومة بين حقائب سيادية وغير سيادية تفتقر الى معايير موضوعية، خصوصاً ان كل وزير بات بعد اتفاق الطائف مساوياً لبقية الوزراء في الحقوق والواجبات، بل بات صوته كصوت رئيس الوزراء الذي لا يحق له ، ولا لرئيس الجمهورية، ولا لهما معاً، اقالة اي وزير الا بموافقة مجلس الوزراء الذي بات مجتمعاً بعد اتفاق الطائف السلطة الاجرائية العليا في البلاد، فمثل هذا التمييز يؤدي الى تنافس لا مبرر له، وصراع على الاحجام لا طائل منه.

3. ان الطبيعة الاستثنائية التي يمر بها لبنان تظهر ان كل وزارات الخدمة هي وزارة سيادية لاتصالها بعمق المحنة اللبنانية، فوزارة الاقتصاد مثلاً وعلاقتها بسعر الخبز وبغلاء الاسعار هي وزارة تتصل بالامن الاجتماعي للبنانيين جميعاً، وهو أمن ينعكس بالضرورة على أمن البلاد باسرها وبالتالي سيادتها، ووزارة الطاقة وبكل الاداء المتعثر للكهرباء وانعكاسه على كلفة الانتاج وحياة المواطن وخزينة الدولة والديون الداخلية والخارجية هي ايضاً وزارة تتصل بسيادة الوطن المرتبطة حكماً بالامن الاقتصادي والمالي، ووزارة الاتصالات باتصالها بقضية "الهاتف الخليوي" - وهو نفط لبنان – هي كذلك وزارة سيادية لانها تتصل بسلعة استراتيجية ذات موارد كبيرة في بلد صغير كلبنان، وينطبق الامر ذاته على التربية التي لم تعد تنظيماً لشؤون التعليم بل لها مهمة تنقل عبرها الاجيال من الجهل الى العلم وبالتالي من التعصب والتزمت الى الوعي والانفتاح، وزارة العدل باتصالها بالقضاء، والعدل اساس الملك، هي صمام الامان وصاحبة القول الفصل في كل الخلافات والنزاعات ذات الابعاد المحلية والاقليمية والدولية وبالتالي تتصل بوضوح بالسيادة الشعبية والوطنية، وما يقال عن الوزارات المتصلة بالانتاج يقال عن وزارتي الزراعة والصناعة، وحتى البيئة والسياحة والاشغال فنمو الاقتصاد الوطني، وهو امر شديد الاتصال بالسيادة الوطنية، مرهون بنجاح هذه الوزارات في تطوير القطاعات المسؤولة عنها لايجاد دعائم داخلية للاقتصاد اللبناني.

وحتى وزارات الدولة فهي في الدول الديمقراطية، بل في تاريخ لبنان ذاته، هي وزارات سيادية وسياسية مميّزة لانها تمنح الوزير حق مراقبة عمل الحكومة برمتها والمساهمة بتوجيه سياستها بدلاً من الغرق في تفاصيل ادارية واستقبال مراجعين وتوفير خدمات ترهق السياسي وتكرس الطابع الزبائني للسياسة.

4. ان حصر حقائب معينة، يقال عنها سيادية، بممثلي طوائف معينة يشكل امعاناً في ترسيخ النظام الطائفي القائم، والذي وعد اتفاق الطائف بالعمل على تجاوزه، واذا اضفنا الى طائفية الحقائب السيادية التقاسم الحزبي والسياسي لها، فاننا نجد انفسنا امام ابشع انواع المحاصصة الطائفية والحزبية التي لا مكان فيها لذوي الكفاءات اما بسبب انتمائهم لطوائف "صغرى"، او لعدم انتمائهم "للاحزاب الكبرى" داخل طوائفهم ذاتها.

5. ان التشبث بحقيبة من هنا وحقيبة من هناك في حكومة ذات طبيعة انتقالية، ومهمة محددة هي الاشراف على الانتخابات النيابية، لن يكون ذا منفعة كبيرة لحاملي هذه الحقيبة او تلك، خصوصاً بسبب التعقيدات الادارية والتشريعية المتصلة بالمشاريع والتي تشكل مكسباً لهذا الفريق وبالتالي فان "الصراع" على الحقائب الخدماتية في حكومة انتقالية هو ايضاً صراع لا جدوى منه.

6. من الواضح ان الادارة الامريكية الراحلة بعد اشهر ما تزل تصر على حشر انفها بالقضية اللبنانية خصوصاً، وقضايا المنطقة عموماً، عبر مواصلة التحريض على المقاومة وسلاحها، مما يدفعنا الى الاعتقاد انها ما زالت تحلم، رغم تراجع نفوذها داخل واشنطن وخارجها، بابقاء لبنان تحت رحمة الفوضى وفي زحمة الاحتراب الاهلي والفتنة المتجولة.

7. ان ما يتردد عن رهان فريق من هنا او جهة من هناك على متغيرات حاسمة على الصعيدين العربي والاقليمي، بما يدفعه الى المماطلة بتاليف الحكومة، من شأنه ان يكرر في البلاد تجارب مأساوية ورهانات خائبة يعرفها اللبنانيون جميعاً، بل من شأنه ان يضع لبنان بأسره في مهب المتغيرات الخارجية ولكن "المتوقعة" هذه المرة لا الواقعة فعلاً.

فبعد ان نجحت المعارضة في الحصول على الثلث زائداً واحد من المقاعد الوزارية، وبعد ان احتفظت الموالاة بالنصف زائداً واحد، بات ممكناً لاي طرف مراهن على تطورات خارجية لمصلحته ان يسقط الحكومة، اذا حصلت هذه المتغيرات، ويأتي بحكومة تنسجم معها ، اما ابقاء الفراغ الحكومي – اسير الانتظار - وعلى هذا النحو فمن شأنه ان يؤدي الى تداعيات محلية سلبية ستنعكس بدورها على الاوضاع العربية والاقليمية.

اننا ندعو فخامة الرئيس ميشال سليمان ان يشرف بنفسه مع رئيس المجلس النيابي والرئيس المكلف وقادة الكتل النيابية على الاسراع بتشكيل الحكومة، وتذليل كل العراقيل التي تحول دون ذلك، مذكراً الجميع ان التنازل لمصلحة الوطن وانجاح مسيرة المشاركة والوفاق ليس تنازلاً للطرف الآخر بل هو ترفع وتعال وارتقاء بالاداء السياسي وبالمسؤولية العامة.