شكّ أن الحرب الباردة التي بدا كأنها وضعت أوزارها مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانتصار ماحق للولايات المتحدة، وتركها وحيدة على قمة العالم، لم تنته البتة، بل استترت ولبست برقع النفاق والمداهنة بهدف فتح القلعة الروسية المترنحة سلماً وبوسائل الغواية والاحتواء والضغط. كان الظن في التسعينات أن وصول قادة أوليغاركيين إلى قمة السلطة في موسكو، ثم انتهاب الثروة الروسية من جانبهم وأزلامهم في عملية سطو منظمة ومذهلة، كلها كفيلة بتسليم مفاتيح القلعة للطابور الواشنطوني الهوى، وعبره لواشنطن، بما يجعل من روسيا دولة تابعة ومستتبعة تدور في فلك السيد كمجرة منتظمة الدوران. والحقّ أن روسيا ما كانت يوماً عبر القرن العشرين إلا هاجس واشنطن الكبير، بدءاً من حروب التدخل مطالع العشرينات، وصولاً إلى إسدال الستار الحديدي، وعبوراً إلى دفن الاتحاد السوفياتي.

والشاهد أنّ الولايات المتحدة التي احتكرت السلاح النووي لأعوام أربعة (45 ــ 49) فشلت في انتهاز الفرصة لإملاء إرادتها على الاتحاد السوفياتي حينها، متمثلة في التحلل من اتفاقات يالطا وانتزاع دول أوروبا الشرقية من قبضته.
ولعلّ سبب ذلك كان جملة عوامل متضافرة أهمها وهن عزم الولايات المتحدة التي لم تمض برهة بعد على خروجها من الحرب العالمية الثانية بتضحيات وصلت إلى 300 ألف قتيل، ومن ثم حاجتها إلى فرصة لالتقاط الأنفاس والالتفات إلى اهتمام موقوت بالداخل.

من هنا تفضيلها لوسائل الاحتواء والضغط والإنهاك، وهو ما تجلى في إنشاء وكالة الاستخبارات المركزية (49) والعهود إليها بمهمات الحرب السرية الكفيلة ــ مصحوبة بالاحتكار النووي ــ بفتح القلعة من الداخل والخارج مع بعض انتظار صبور.

ما قلب المائدة وكسّر الأطباق كان كسر موسكو للاحتكار النووي عام 49 ولحاقها بواشنطن بزخم وامض.
ضاقت الفجوة بل وانسدّت مع أواسط الخمسينات، فغدت الحرب النووية مستحيلة لسبب بديهي وحيد وهو قدرة كل من الطرفين على سحق الآخر أيما كان البادئ: أي بمعنى آخر تساوت الضربتان الأولى والمضادة في القيمة والأثر، وبالتالي تحتم الردع المتبادل.

من هنا نشوء تعابير التعايش السلمي وتحريم التجارب النووية وخفض الأسلحة النووية و Salt-1 و Salt-2 وتحريم انتشار السلاح النووي، وغيرها من صيغ ومعادلات طفت كلها فوق سطح مقولة ناظمة هي: ردعية التدمير الشامل المتبادل. والقاطع أن تناول واشنطن للمسألة النووية تماوج بين مرونة امتدت من أواخر الخمسينات حتى أواخر السبعينات (الفترة التي شهدت كل الاتفاقات السالفة الذكر)، وبين تشدُّد لاحت قسماته في العام الأخير من ولاية كارتر، ثم تبارزت وسادت طيلة الولاية الريغانية ــ البوشية لها. في الطور الريغاني الأخير من الحرب الباردة لعب حزب الحرب الأميركي بذكاء ورقة تسعير سباق التسلح إلى مداه. كان يعلم علم اليقين أن ارتفاع النفقات العسكرية سينهش من لحم الاقتصاد الأميركي صحة وعافية، لكن رهانه (في مخاطرة محسوبة) على أن الخصم السوفياتي سيصرخ أولاً كان في مكانه تماماً كما تجلى في النصف الثاني من الثمانينات.

المشكلة هي أن الانهيار السوفياتي شبه الشامل لم يصل إلى حدود تخلي روسيا عن القدرة النووية، كما فعلت أوكرانيا وكازاخستان.

الفضل في ذلك أولاً وآخراً يعود للمؤسسة الأمنية ــ العسكرية الروسية المتحالفة مع الصناعات العسكرية، أي النسخة الروسية عن المجمع العسكري الصناعي الأميركي.
ولعل القطاع الآخر الذي نجا من هؤلاء الأوليغاركيين النهّابين وعمودهم الفقري صهيوني مرعيّ أطلسياً هو قطاع الطاقة.
والشاهد أن نجاة قطاعي السلاح والطاقة من براثن أباطرة الليبرالية المتأطلسة هو ما كفل في زهاء عقد من السنين عودة الروح لروسيا.

ما أمله حزب الحرب الأميركي هو أن تضطر روسيا، في سعيها للطوف فوق مياه الرفاهية الغربية، إلى مقايضة ذلك بموجوداتها النووية، وفتح مصادر طاقتها للاستثمار غير المجزي، وبذا تتم فصول القصة وينتهي تحدي القرن العشرين في قلب أوراسيا.

ما الذي فعله حزب الحرب سعياً وراء «فتح» روسيا؟
حجر الزاوية كان:
1ــ الاحتفاظ بحلف شمال الأطلسي، رغم انحلال نقيضه «حلف وارسو».

2ــ تكبير الحلف ليضم تدريجياً كل دول أوروبا الشرقية التي خرجت من الفلك الروسي، وتحتفظ نحو موسكو بمشاعر النقمة والنفور.

3ــ الوصول بحدود «الأطلسي» إلى تخوم موسكو غرباً، وإلى بطنه الرخو في جورجيا جنوباً.

4ــ تغذية التمرد الانفصالي في الشيشان ليكون عملية استنزاف مستمرة لروسيا، وسبب وقيعة بينها وبين عالم الإسلام.

5ــ محاولة الغزو «الديني» عبر تمكين المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي من الانتشار ومغالبة المذهب الأرثوذكسي السائد، الذي هو رمز التمايز السلافي بما يحمله من استقلالية وعزة.

6ــ رعاية وتمويل ما عُرف بجماعات المجتمع المدني لتكون قاطرة اختراق لنسيج المجتمع وقواه الشعبية.

7ــ نشر القواعد العسكرية في آسيا الوسطى أولاً بحجّة مكافحة «الإرهاب» الأفغاني... وثانياً بالتشبث بها بعد خفوت الحجّة.

نصل الآن إلى مطلب السيادة النووية. ما بدأ منتصف الثمانينات تحت مسمى «حرب النجوم»، لم يكن فكرة مثيرة خيالية تشبه أحلام الظهيرة لكنها خطة جادة طموحة تسعى لاستعواض فجوة 45 ــ 49 مع الحرص على عدم تبديدها هذه المرة. ما أقصده هو أن المراد والمرام هو امتلاك القدرة على حرمان روسيا توجيه ضربة نووية أولى ــ أو أقله التهديد بها ــ دونما خشية من رد. وعكس ما ظن البعض أن حرب النجوم هذه كانت طفرة عابرة، فالحق أنها لبثت وتنامت واستمر الإنفاق عليها دون تقتير طيلة العقدين الفائتين.

لكن نقطة تحوّل أساسية حدثت مع وصول بوش الثاني للحكم وعرّجت بمسار «النجوم» هذا إلى سابع سماء.
كان ذلك خروج الولايات المتحدة عن التزامها بمعاهدة الـ ABM الصاروخية، وبالتالي عزمها على استيلاد أجيال من الصواريخ «الدفاعية» القادرة على قنص أي صاروخ بالستي موجه صوب الولايات المتحدة وإسقاطه من علٍ.
وإثر سنوات خمس من هذا التحلل من مواثيق المعاهدة الصاروخية، بلغ العزم بحزب الحرب مبلغاً تمثّل في نشره لمنظومة الصواريخ الاعتراضية هذه في بولندا وتشيكيا وبلغاريا، أي في المدى الغربي القريب لروسيا.

تصاحب هذا التحلل مع قيام حزب الحرب بنشر القواعد العسكرية في أربع زوايا المعمورة، لتقترب من رقم الألف، ولتشمل البلقان وأوروبا الوسطى والشرقية والقوقاز وآسيا الوسطى وجنوب آسيا والخليج ــ الجزيرة وآخرها أفريقيا. هل من قطبة مخفية في كل هذه الحياكة المحبوكة؟
هي بيقين حزب الحرب أن السيادة النووية هي الكفيل الأوحد بتأمين الهيمنة الكونية الشاملة، ولا سيما أنه يفتقد أياً من شرائط التفوق الأخرى الاقتصادية منها أو العلمية أو حتى «الناعمة».

بمعنى آخر فهي مقامرة القرن: إما أن «نستلب» قراره بالقسر والقوة ــ والفرصة لذلك تبدو سانحة إن استغلت الآن وإلى النهاية ــ أو أن تضيع الفرصة مرة وإلى الأبد، ومن ثم يصاب المشروع الإمبراطوري الأميركي بكل أعراض التراجع البريطاني، التي بدأت مع الصعود الأميركي مطلع القرن العشرين، وتجلت ساطعة لكل ناظر في سويس ــ 56.
بتلخيص مكثف: «أمركة» القرن الواحد والعشرين تعني:
1ــ تأمين السيادة النووية = فتح روسيا. 2ــ تأمين الطاقة = فتح الحوض العربي ــ المسلم. 3ــ استتباع المنافسين = ترويض الصين.

أما فتح روسيا، فلعلي أبعد ما أكون عن المبالغة إن قلت إنه يصل بتصميمه ودأبه حد تقسيمها وذلك بتحريض الـ25 مليون مسلم فيها على مواطنيهم السلاف، والعكس صحيح، ثم باستلاب سيبيريا وكنوزها إما بقوة الضم على الطريقة الألاسكية، أو بافتتاحها بوسائط النفوذ والسيطرة غير المباشرة.

أوراسيا مربط الفرس، وغربها المسلم قاعدة الانقضاض. والعرب ـ المسلمون والسلاف ــ الروس وخلفهم الكونفوش ــ الصين هم محور المستقبل، حتى وإن قصر وعيهم الآن عن إدراك ما إدراكه محتوم مع المقبل من الزمان.
"الأخبار"