استكشاف للمواقف، ليس أكثر../ د.جمال زحالقة
جاء الإعلان المفاجئ عن مفاوضات غير مباشرة سورية – إسرائيلية بوساطة تركية في الوقت الذي ينشغل فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرط بملف التحقيق معه، الذي قد ينهي حياته السياسية خلال مدة لا تتجاوز بضعة أشهر. وفسر الكثيرون الإعلان بأنه يهدف إلى صرف الأنظار عن قضية "مظاريف الدولارات"، التي تعصف بالحلبة السياسية الإسرائيلية.
قد تكون لأولمرط مصلحة في توقيت الإعلان، لكن لا علاقة لذلك بطبيعة الاتصالات غير المباشرة الجارية، عبر المسار التركي، منذ أكثر من سنة، وتحديدا بعد زيارة أولمرط لتركيا في شباط 2007، واتفاقه مع الأتراك على بدء تبادل الرسائل مع سوريا. ربما الجديد في الإعلان هو تدشين مرحلة مفاوضات، وليس فقط اتصالات، غير مباشرة. لكن هذه ليست مفاوضات للتوصل الى اتفاق، بل هي عملية استكشاف للمواقف لفحص إمكانية الشروع بمفاوضات علنية مباشرة للتوصل إلى تسوية سلمية.
لقد أعلنت سوريا أكثر من مرة أنها ليست مستعدة للتفاوض على الأرض، أي أن على إسرائيل الالتزام بما تعهدت به سابقاً وهو استعدادها للانسحاب إلى حدود الرابع من حزيران، وعندها ستتمحور المفاوضات على قضايا ترسيم الحدود والمياه والترتيبات الأمنية وطبيعة السلام. وأعلنت سوريا كذلك أنها لا تقبل مفاوضات واتفاقيات سرية، لذا أعلنت قبل أشهر عن تلقيها رسالة تركية تؤكد استعداد إسرائيل للانسحاب من الجولان، ووافقت، وربما طلبت، الكشف عن الاتصالات والمفاوضات غير المباشرة في اسطنبول. سوريا، من جهتها، لها مصلحة في هذا الإعلان، فهي تفاوض من منطلق قوة دون أن تتنازل عن أي من مواقفها كما طالبتها الولايات المتحدة وإسرائيل مراراً وتكراراً.
رغم الضجة الكبيرة التي أثارها الكشف عن التفاوض في تركيا، إلا أن فرص نجاحها تبدو ضئيلة، إذا أخذنا بعين الاعتبار الموقف الأمريكي والحالة السياسية في إسرائيل. من الواضح أن إسرائيل لم تدخل هذه المفاوضات بدون إبلاغ الولايات المتحدة وبدون إعلامها بمجريات الأمور فيها. ويبدو ان الإدارة الأمريكية لم تعترض، لكنها غير متحمسة لها بالمرة، وقد بدا ذلك جلياً في ردود الفعل الباردة للبيت الأبيض والخارجية الأمريكية، والتي لا يمكن تفسيرها لا كضوء أخضر ولا أحمر ولا أصفر. لم تغير الولايات المتحدة موقفها من سوريا وكل ما هنالك أعطت إسرائيل حبلاً قصيراً لاستكشاف المواقف ليس أكثر. ما دامت أمريكا على موقفها فإن إمكانية التقدم الجدي في المفاوضات شبه معدومة، فالوساطة التركية هي للتمهيد للمفاوضات وإسرائيل لا تستطيع التوصل إلى اتفاق مرفوض أمريكياً. ما من شك أنه ما دام بوش في البيت الأبيض فإن الولايات المتحدة ستظل تشترط على سوريا الكف عن لعب دور إقليمي في المنطقة والانكفاء على ذاتها وان تتصرف كما موريتانيا مثلاً.
سوريا لن تقبل هذا الشرط لأن لها مصالح طبيعية في علاقاتها الإقليمية في كل من إيران ولبنان وفلسطين والعراق. الموقف السوري واضح وباعتقادي لن يتغير، وهو ان مرجعية عملية التفاوض هو مؤتمر مدريد، أي الأرض في مقابل السلام، وليس السياسات الأمريكية في المنطقة، وإذا جرى إقحامها كأساس أو كشرط للمفاوضات فإن الوضع سيبقى كما هو عليه اليوم ولا أمل لتقدم جدي في المفاوضات.
لقد باغت الإعلان عن المفاوضات غير المباشرة الحلبة السياسية الإسرائيلية، وهي في حالة عدم استقرار ورئيس الوزراء الإسرائيلي يحتضر سياسيا. وحتى لو أمل أولمرط بأن يؤدي ذلك الى صرف نظر الرأي العام عن قضيته، فإنه من المؤكد بأن الشرطة والجهاز القضائي لن يصرفا النظر عنها وقرارهما بمسألة لائحة الاتهام سيحسم مصير اولمرط، الذي التزم بالاستقالة من منصبه في حال تقديمها.
في كل الأحوال، من الواضح أن الساحة السياسية الداخلية في اسرائيل غير مهيأة وغير جاهزة وغير ناضجة للتعامل الجدي مع ملف الجولان المحتل، وحتى المتحمسين للتفاوض مع سوريا والتوصل إلى حل معها من أمثال داني ياتوم وشيلي يحيموفيتش من حزب العمل هاجموا اولمرط واتهموه باستغلال ملف المفاوضات للتغطية على ملف الدولارات.
بالمجمل لسنا أمام حالة مفاوضات مجدية وجدية، بل مرحلة استكشاف للمواقف وتمهيد للتفاوض، لكن الظرف السياسي، وأهم من ذلك الموقف السياسي لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل لا يسمح بأن ينتج عن هذا الاستكشاف أكثر استعراض لشروط التسوية. أما الخطوة التالية فهي مرهونة بالتطورات السياسية في واشنطن وتل أبيب، وقد يتحول البرود، الذي لاقت به الولايات المتحدة الاعلان عن المفاوضات، الى تجميد الخطوة التالية.