بيدق يترنح في تبليسي/ فيصل جلول
تفيد أنباء موثوقة نشرت في فرنسا صيف العام الماضي بأن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ذهب بنفسه إلى القصر الرئاسي في تبليسي من أجل انتزاع توقيع الرئيس على قرار بوقف إطلاق النار إثر المجابهات الروسية الجورجية، وانه قال لميخائيل سكاشفيلي الذي رفض توقيع القرار، اسمع: “ستحتل القوات الروسية عاصمة بلادك وسيأتي بوتين بنفسه لخلعك من الحكم ولن يتمكن أحد من نجدتك لذا من الأفضل لك ولبلادك أن توقع على وقف النار مع الروس”. لا نعرف تفاصيل محددة عن رد فعل الرئيس الجورجي لكن من المتوقع أن يكون قد شعر بمرارة ما بعدها مرارة فهو خاض حرباً صغيرة مع الروس من أجل السيطرة على إقليم “اوسيتيا الجنوبية” الذي يتمتع بحكم ذاتي ضمن جمهوريته وكان يعتقد أنه يحظى بتغطية غربية واسعة ويحتفظ بهامش واسع للمناورة في ظل توتر ملحوظ حينذاك بين واشنطن وموسكو حول الدرع الصاروخية. وتذهب بعض الأنباء غير المؤكدة إلى أبعد من ذلك إذ تروي أن سكاشفيلي هاجم “اوسيتيا الجنوبية” المحمية من الروس بعد أن تلقى تطمينات أمريكية وغربية بنصرته، فكان ما كان وما بات معروفاً من الجميع حيث ترتب على تلك الحرب إعلان الاستقلال في الإقليم المنشق، فضلاً عن إقليم ابخازيا المتمرد لتخسر جورجيا في صيف واحد أكثر من 20 في المائة من الأراضي الخاضعة لسيادتها.
وعلى الرغم من المديح الديمقراطي الغربي الذي أغدق عليه من دون حساب لم يبادر ميخائيل سكاشفيلي إلى الاستقالة وبالتالي الاحتفاظ بماء وجهه فقد ظل يعاند المطالبين برحيله إلى أن أدركته النتائج السلبية للأزمة المالية العالمية. فالعملة الجورجية فقدت 40 في المائة من قيمتها وأرقام العاطلين عن العمل تتصاعد يوماً بعد يوم ويلجأ أصحاب السيارات الخاصة إلى نقل الركاب بالأجرة لتحصيل مدخول إضافي يعينهم على مواجهة أعباء المعيشة المتزايدة، ويروى أن بعض المتقاعدين عادوا إلى زراعة حدائق منازلهم بالخضراوات للحصول على ما يسد رمقهم، الأمر الذي يذكر بالسنوات القاتمة من التجربة السوفييتية. أما الرئيس “الديمقراطي” فلا حلول في جعبته غير الإصرار على البقاء في الحكم لإكمال عهدته الرئاسية التي تنتهي في العام 2013.
ليست حال سكاشفيلي فريدة من نوعها فقد سبق للاعبين آخرين مع الغرب عموماً والولايات المتحدة بخاصة، سبق لهم أن دفعوا ثمناً باهظاً لتجرئهم على اللعب في مناطق التماس بين الدول العظمى أو مناطق الصراع على المصالح فيما بينها. فهذه الدول لاتتردد في طي صفحة المتعاملين معها بدم بارد عندما يخسر هؤلاء معارك مبنية على تقديرات خاطئة أو عندما يغامرون بمصالح بلادهم واهمين بأن النجدة من هذه الدولة العظمى أو تلك آتية لا ريب فيها لأسباب مبدئية أو ايديولوجية.
فلو قدر للرئيس الجورجي امتلاك خبرة أكبر في العلاقات الدولية لربما اتعظ من تجربة شاه إيران الراحل محمد رضا بهلوي الذي كان حليفاً للغرب لا يشق له غبار، فإذا به يصبح بين ليلة وضحاها في خبر كان، بل كادت الولايات المتحدة أن تسلمه للنظام الإسلامي الناهض لمقايضته برهائنها المحتجزين في السفارة الأمريكية في طهران في غرة الثورة الإيرانية. وكان على الرئيس الكونغولي المخلوع باسكال ليسوبا أن يهرب من قصره الرئاسي عندما اكتشف بعد فوات الأوان أن الشركات النفطية الأمريكية التي جاء بها إلى بلاده لحمايته من سطوة وانفراد الشركات الفرنسية قد تواطأت مع الفرنسيين من أجل الاطاحة به.
إذا كانت السياسة تعني في ما تعنيه “حسن تدبير الشؤون العامة” فإن السياسي الماهر هو الذي يلتزم هذا الشرط. لم يحسن سكاشفيلي تدبير شؤون بلاده لحظة خروجها من عباءة شيفارنادزة آخر ديناصورات الحرب الباردة عندما ارتضى أن يلعب دور البيدق الأمريكي على مرمى حجر من الحدود الروسية، ذلك أن البيدق يهوي في لعبة الكبار في خط المواجهة الأول دون مجد ولا من يمجدون. نعم لم يسقط البيدق الجورجي بعد لكنه يترنح على قاب خطوة أو خطوتين من الأرض.
"الخليج"