حوار عبثي من منطلقات متصادمة / غالب أبو مصلح
ولد "لبنان الكبير" في أعقاب الحرب العالمية الاولى ككيان ونظام حول بيروت وجبل لبنان، وأصبح أسير التراث السياسي للصراع الطائفي في الجبل، وأسير الطبقة البرجوازية الكولونيالية التي تشكلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بيروت إبان عهد المتصرفية، وبعد إسقاط نظام الاقطاع في جبل لبنان. بقي هذا الكيان، ودوره السياسي والاقتصادي، كما بنيته الداخلية المرتبطة بهذا الدور، موضع جدل داخلي حاد. كما اندفع هذا النظام عند مفاصل تاريخية مر بها المحيط العربي، الى صراعات داخلية دامية، استقطبت لاعبين أساسيين في المحيط وفي مراكز النظام العالمي.
كل جدال سياسي في الوقت الراهن يؤدي الى انقسامات عمودية وعلى أسس طائفية الى حد بعيد. وتستند هذه الانقسامات الى جذور تاريخية، اقتصادية وثقافية وسياسية، تكونت إبان عهود الوصاية والسيطرة الاستعمارية الغربية، ولخدمة هذه القوى الخارجية، وخاصة منذ بدايات القرن التاسع عشر. فالانقسامات في الرأي حول مزارع شبعا ولبنانيتها، العملاء الفارين الى اسرائيل، العلاقات السورية اللبنانية، الفلسطينيين في لبنان وحقوقهم، الموقف من الوكالات الحصرية، أزلية الكيان، الديموقراطية التوافقية، الطائفية السياسية وقانون الانتخابات، وغيرها الكثير، كل هذه المسائل هي عناوين للمسألة اللبنانية، والتي يدور حولها حوار مراوغ وموارب لا يمكن أن يقنع أحداً، ويعجز عن التأسيس لوحدة وطنية حقيقية.
إن جذور المسألة اللبنانية لا تعود كما يدعي البعض الى أيام الفتح العربي الاسلامي، بل الى عهود الهيمنة الغربية التي بنت ثنائية المراكز والاطراف التابعة لها على الصعيد العالمي. وأنتجت هذه العلاقة غير المتكافئة أبعاداً ثقافية ودينية وإثنية في معظم الاحيان. إن هذه العلاقة وما أنتجته من سياسات لتأبيد التبعية، خلق ثنائيات الصراع التاريخي: مسيحي مسلم، غربي شرقي، أبيض ملون، مع التشديد على تفوق المسيحي والغربي والابيض على جميع الصعد الفكرية والثقافية والعسكرية، وحقه بالهيمنة والسيطرة والسيادة.
عمل الاستعمار الغربي على جر قسم من اللبنانيين، والمسيحيين منهم بشكل خاص، الى هذه الثنائية الصدامية في الداخل اللبناني، لتكوين قاعدة صلبة لسيطرته، واستناداً الى ميثولوجيا تاريخية طائفية مزورة ومناقضة لحقائق التاريخ كما أوردتها المراجع البيزنطية والعربية. فقد أسس هذه الميثولوجيا المطران ابن القلاعي، وهو من أوائل متخرجي معهد روما الماروني، وبنى عليها مؤرخو الكهنوت الماروني من بعده وبعض المستشرقين، تاريخاً خاصاً للبنان المتميز والمتناقض مع محيطه.
لم تصبح هذه الميثولوجيا التي تساوي بين تاريخ الموارنة الوهمي وتاريخ لبنان، والتي تعطي الموارنة أنساباً غربية وعلاقات دائمة بالبابوية، وتاريخاً أسطورياً في مقارعة العرب والمسلمين، وتحالفاً تاريخياً مع كل الغزوات الاوروبية للمشرق، لم تصبح هذه الميثولوجيا عقيدة شعبية في جبل لبنان، إلا عند بدايات القرن التاسع عشر. قبل ذلك، كانت الانقسامات السياسية أفقية وعابرة للطوائف: قيسي يمني، وبعد سنة 1712: يزبكي جنبلاطي. أما ثقافياً، فكان سكان جبل لبنان موحدين الى أقصى الحدود. يقول هنري غيز، قنصل فرنسا في لبنان، نتيجة زياراته للقرى المسيحية في الجبال، ان المسيحيين كانوا ينشدون الاناشيد النبوية في سهراتهم، ويسميهم "قرود المسلمين"، اذ كانوا لا يتميزون عن أبناء الطوائف الاسلامية في شيء. كانت العادات والتقاليد واللباس والحياة الاجتماعية واحدة. وحتى نهاية الحرب العالمية الاولى وبداية عهد الاستعمار الفرنسي، كان من النادر جداً أن تسمع باسم أجنبي بين المسيحيين من سكان الجبال.
إن ثنائية مسيحي مسلم بدأت تظهر مع نمو الامتيازات القنصلية للدول الغربية، وفي ظل نظام "الملل" العثماني، وحيث وضع القناصل العديد من أبناء البرجوازية البيروتية، من التجار والمرابين ووكلاء الشركات الاجنبية، وجلهم من المسيحيين، وكذلك رجال الكهنوت تحت حمايتهم. ثم توسعت هذه الحماية في ما بعد لتشمل كل أبناء الطوائف المسيحية.
ومع نمو نفوذ وسلطة الكنيسة المارونية، المواكبة لنمو نفوذ وهيمنة الدول الاوروبية، ونمو التوظيفات الرأسمالية الغربية، والفرنسية منها بشكل خاص، أخذ تماهي البرجوازية المسيحية خاصة مع الغرب الاستعماري يتوسع ويتعمق، مع سقوط النظام الاقطاعي سنة 1861 ونشوء نظام المتصرفية، ثم مع تقسيم المشرق العربي ووضع لبنان تحت الوصاية الفرنسية. فقد بنى الاستعمار الفرنسي النظام اللبناني سياسياً على أسس طائفية وبغلبة وامتيازات مسيحية، كرسها ميثاق سنة 1943 الذي أعطى رئيس الجمهورية الماروني صلاحيات المندوب السامي الفرنسي.
لم يشكل عهد الاستقلال انقطاعاً مع الماضي الاستعماري على الصعد الاقتصادية والسياسية والثقافية، وخاصة على الصعيد الطائفي. بل ان عهد الاستقلال كرس البنى السابقة كما كرس الامتيازات الطائفية غير العادلة، رغم المتغيرات الديموغرافية العميقة، كما كرس الدور الاستعماري الوسيط للبنان، كحلقة وصل، أو جسر بين الدول الرأسمالية الغربية والداخل العربي. وأتت تطورات المحيط، وخاصة سقوط فلسطين سنة 1945 لتعطي دفعاً جديداً لهذا الدور الخدماتي الوسيط، المبني تاريخياً حول دور بيروت التجاري والمالي والاعلامي والثقافي.
إن علاقة التبعية للمراكز الرأسمالية لم تعد تتطلب وجوداً عسكرياً وإدارياً مباشراً في دول الاطراف، اذ ان الاقنية التجارية التي حفرها الاستعمار، وتقسيم العمل على الصعيد العالمي، وشبكة العلاقات المالية، كما استمرار حكم الطبقة البرجوازية الكولونيالية كفيل بتعميق تبعية دول الاطراف لدول المركز.
إن الدور الاستعماري الوسيط للبنان، كما الذاكرة التاريخية المزورة المستندة الى ميثولوجيا استعمارية، جعلت القسم الاكبر من النخب المسيحية في الحكم وخارجه، تتماهى مع الغرب الاستعماري، ثقافياً وسياسياً، فتسقط ثقافتها ولغتها العربيتين، ومظاهر حياتها الاصيلة، وتتعالى كجزء من الغرب الاستعماري المتفوق والمسيطر على أبناء الطوائف الاسلامية عامة، وعلى محيطها العربي الاسلامي، وتكتسب شوفينية استعلائية، بل عنصرية وعداء لهذا المحيط. واستطاعت هذه الطبقة المتفرنجة والاكثر نفوذاً أن تعمم ثقافتها الاستعمارية الشوفينية على شرائح واسعة جداً من أبناء الطوائف المسيحية، وعلى بعض النخب من الطوائف الاسلامية، وذلك بسبب الهزائم العربية من ناحية، والبنية التحتية التعليمية والاعلامية والثقافية والاقتصادية المساندة لها ولتوجهاتها.
إن أقوالاً ومواقف صادرة عن نخب مؤثرة وفاعلة لا يمكن فهمها دون فهم هذه الخلفية السياسية والثقافية. لا يمكن فهم العداء للسوريين، حتى العمال منهم، دون فهم هذه الخلفية. لا يمكن فهم المواقف العنصرية والشوفينية، الشعبية والرسمية، من الفلسطينيين، وسكان المخيمات منهم بشكل خاص، دون فهم هذه الخلفية. لا يمكن فهم المواقف العنصرية من الافارقة والعاملات السريلانكيات مثلا دون فهم هذه الخلفية. لا يمكن فهم المواقف الماضية من الاحتلال الاسرائيلي، والمواقف الحالية من عملاء اسرائيل الفارين دون هذه الخلفية التي تنظر الى اسرائيل عن حق، كجزء من الغرب، أو كمخفر متقدم للغرب الامبريالي، الشبيه والموازي لرؤية بعض اللبنانيين لذاتهم، دون فهم هذه الخلفية.
وعبر هذه الخلفية نستطيع أن نفهم كلام الوزير الحالي بيار الجميل عن "الكمية والنوعية" بين اللبنانيين، وكلام مجمع المطارنة عن الموارنة "الاكثر كفاءة وأخلاقاً" من سواهم من اللبنانيين، وكلام الأب سليم عبو، رئيس الجامعة اليسوعية، عن الخطابات "العروبية" والاسلامية واليسارية، و"كلها خطابات أصولية غير جديرة بالاحترام"، وعن المواقف والتصريحات المتعددة المصادر، المعادية للمقاومة فكراً ونهجاً، في لبنان وخارجه، والمؤيدة للقرار 1559، والمتحمسة "للديموقراطية" التي أتى بها الاجتياح الاميركي للعراق.
إن أي حوار هادف الى تحقيق وحدة وطنية لبنانية، لا بد أن ينطلق من فرضيات أو مسلمات وثوابت مشتركة، من رؤية واحدة للذات والمحيط وربما ايضا لمستقبل سياسي اقتصادي ثقافي اجتماعي مشترك. فإذا كان الخلاف عميقاً بين القوى السياسية الطائفية حول هذه الأسس يصبح الحوار مناورات كلامية وخداعاً للذات قبل الغير.
إن الوصول الى وحدة وطنية حقيقية، الى وطن لبناني واحد لجميع أبنائه، قابل للحياة، ويتطلب حلولاً جذرية لكل هذه المسائل الخلافية التي تشكل بمجملها المسألة اللبنانية. والحل الجذري يفرض اولا وقبل كل شيء قطع العلاقات مع الارث الاستعماري، الثقافي والاقتصادي والسياسي، أي تغيير النظام اللبناني عبر إسقاط الطبقة الحاكمة المسيطرة، والتي فقدت جدوى ومبررات وجودها. ثم تتطلب عملية الانقاذ بناء اقتصاد تعددي متوازن، متحرر من التبعية للمراكز الرأسمالية العالمية، والى نظام سياسي يسقط الطائفية السياسية فوراً، ويساوي فعلياً بين المواطنين في الحقوق والواجبات عبر نظام انتخابي يجعل من لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي وعلى أساس النسبية. يتطلب ذلك ايضا بناء دولة توحد البنية الخدماتية الاساسية، التعليمية والثقافية والاعلامية، وتؤمنها لجميع اللبنانيين، بدل المدارس والمعاهد ووسائل الاعلام الطائفية والمذهبية. يحتاج ذلك نظاماً لبنانياً ديموقراطياً فعلياً يسعى للوصول الى نظام عربي واحد، اقتصادي وأمني وثقافي، ثم سياسي، على أسس ديموقراطية تحترم الانسان وحقوقه، نظام يدرك أن لبنان جزء عضوي من الوطن العربي وليس جسراً لعبور الغير اليه سياسياً واقتصادياً وثقافياً.
إن أنصاف الحلول غدت عاجزة عن تجديد دور لبنان. وحده التغيير العميق والكامل قادر على إنقاذ لبنان وحل المسألة اللبنانية، وإلا فإن رياح التغيير في المحيط كما في الداخل ستعصف بالكيان والنظام من خارج أطر ما يسمى بالديموقراطية التوافقية والمواثيق اللبنانية المفروضة من الخارج ولا ترضي أحداً في نهاية الأمر.
عن "السفير"