يا سمير: ستقرأ بعينيك جبال الجنوب الشامخة، وأنت في جوف طائرة هليوكوبتر لبنانيّة، ستنقلك من رأس الناقورة إلى مطار بيروت الدولي..

قبل ثلاثين سنة، عبرت البحر إلى الساحل الفلسطيني، البحر الفينيقي الكنعاني، الذي راده أسلافك قبل ألوف السنين، وجعلوه بحيرتهم، لا استبدادا، ولا تجبّرا، ولكن تجارة، وثقافة، وصداقةً، ومعرفةً.

أرسيت زورقك الذي حملك ورفاقك في مياه ( نهاريا)، واقتحمت في الفجر أرضا عربيّةً فلسطينيّةً استباحها الغزاة، وفي الخطّة اختطاف بعض الصهاينة بهدف تحرير رفاق، وأخوة، وأخوات، يرسفون في الأغلال منذ سنوات.

لم تأت الرياح بما يشتهي زورقكم، فاضطررتم للدفاع عن أنفسكم، فاستشهد اثنان، وأسرت وصاحبك أحمد...
أنت يا سمير حكموا عليك 542 سنة..فقط!

لكنك تحلّق اليوم في سماء لبنان، تعبر جبالاً، وسهولاً، وغابات، وفي ذاكرتك المكتظّة تعود ملامح وقامات رفاق رحلوا، ودفنوا في مقابر الشهداء المنتشرة في أكثر من مدينة عربيّة، أو ذابت أشلاؤهم في تراب لبنان، وفلسطين، على قمم الجبال، وفي السهول، أو طوتهم أمواج البحر الذي حمل زورقكم...

الطائرة تهدر عابرة فضاء لبنان الجنوبي، وأنت تتأمّل الغابات، وشعاب الوديان، والذرى، قارئا بطولات من هزموا العدو عام 2000، وأذلوه في الحرب التي لن ينساها عام 2006، تلك الحرب التي اندلعت من أجل حريّتكم، أنتم الأسرى، والشهداء والشهيدات ( الأرقام)!.

ستهبط الهليوكبتر بك وبأخوتك في مطار بيروت، لاستقبالكم رسميّا، ومن بعد تنتقل لمسافة قصيرة فإذا بك في بيتك، في (خلدة) التي استشهد على ثراها العقيد البطل عبد الله صيام دفاعا عن ( بوابة) بيروت، ومعه تسعة من خيرة رجاله...

من مطار بيروت، من الاستقبال الرسمي ستنتقل إلى الاستقبال الشعبي في ( خلدة)، لتلتقي على اسم فلسطين، ولبنان، والعروبة، بحشود ما كنت تعرفك قبل ثلاثين سنة، ولا سمعت بك، وها هي اليوم ترفعك وتعلنك بطلها بجدارة، رمزا للصبر، والصمود، وصلابة الجوهر...

هذه جموع يا سميرلا تزحف للترحيب بحاكم بكّل هذا الحّب، فلقاؤها اليوم بك هو استفتاء على (المقاومة)، ومبايعة لها في فلسطين، ولبنان، والعراق.
السيّد حسن ليس حاكما، ولكنه بطلها، ورمزها، ولذا ترفع صوره حتى في الأزهر الشريف!

من أرض الجنوب المنتصر، وحتى بيروت، ستزحف الجموع لتلقي ببطلها الذي لم يخنع في السجن، وتعايش مع قضبان الزنزانة، ووثق بأن أخوة السلاح لن يتركوه في الظلام للنسيان ولعدو لئيم حقود عنصري.

من قرى الجنوب، والشمال، من بيروت العنيدة بطلة 1982، بطلة المقاومة التي انطلقت شرارتها من شارع الحمرا برصاصة من مسدس فتى لبناني جسور نفّذ حكم الإعدام في ضابط مستهتر، جلس في ( الومبي) مسترخيّا، غافلاً، وفي ظنّه هو وجيش الاحتلال أن بيروت العريقة.. استسلمت، أسلمت مفاتيحها، وأقدارها، فإذا بها أوّل مدينة عربيّة تتحرّر بالمقاومة، ولا تكتفي فتلاحق محتلّي لبنان.. وتقهرهم!

من مخيمات الشهداء، والفقر، والجوع، والمعاناة، ستزحف جموع الفلسطينيين لاحتضانك، وستكلّل رأسك لك براية فلسطين، فأنت ابن فلسطين، كما أنت ابن لبنان، وابن كل العرب، وكّل الأرض العربيّة التي ترى فيك كبرياء المقاوم والمقاومة.

أنت يا سمير عرفت دورك، ورسالتك، والهّم الجليل الذي حمّلتك إيّاه أمتك، فكنت على قّد الحمل وزيادة، ومع كّل المعاناة في الأسر لم تقنط، وها أنت تنتصر على السجن، والقضاة المجرمين الذين اصدروا عليك أحكام المؤبدات لتكون عبرةً، والأطباء الذين لم يخرجوا الرصاصة من رئتك لتتعذّب ليل نهار في عتمة السجن، وأجهزة الموساد التي لم يبق لديها وسيلة للحرب النفسيّة التي شنّتها عليك لتحطيم روحك.

بلغتك أنباء الانكسارات فازددت تشبثا بفلسطين!
تابعت أنباء التنازلات، فعاهدت فلسطين وأنت في زنزانتك على القبض على جمرها...
آخيت الرصاصة التي في الصدر لصق الرئة، وبالقليل من الأكسجين الذي يدخل قصباتك الهوائية، همست لها: أنت عربيّة يا فلسطين، لنا معك دم ولحم وتراب وتاريخ وجغرافيا و..مستقبل.

يا سمير، قبل أيّام أوحى لنا غسّان بن جدّو، في الحلقة الخّاصة من ( حوار مفتوح)، بأن اللقاء القادم سيكون مع بطل غير عادي...
هكذا وعدنا في الحلقة التي أعدها بمناسبة الذكرى الثانية للحرب الصهيونيّة العدوانية على لبنان، التي تبهدل فيها جيش العدو، وانهارت قيادته في الميدان أمام بضعة ألوف من المقاومين، و..في مواجهة شعب لبنان العنيد، الذي لم تهن عزيمته تحت القصف التدميري غير المسبوق في أية حرب عشناها أو سمعنا عنها، اللهم سوى ما جرى لمدينة ( دريسدن) الألمانيّة، التي هدّمتها طائرات الحلفاء في الحرب العالميّة الثانية...

غسان بن جدّو أوحى لنا بأننا يوم السبت القادم سنلتقي ببطل غير عادي.. ألست أنت البطل غير العادي يا سمير؟ أيكون أن نراك على الشاشة مباشرة ً أيها الحبيب، ونسمع منك القليل مّما رغبنا أن نسمعه ومنذ سنوات، بصوت عال رغم آلام الثلاثين عام سجنا؟!
أمنيّة نريدها أن تتحقق، ها هي على مقربة من العين، والقلب، والروح...

يا سمير، ملايين العرب باتوا يعرفونك، ولذا لن يكون الوصول إليك لمعانقتك سهلاً، وإن كنت سأبذل جهدي لمعانقتك، فمن حّق كل عربي تابع وقرأ مواقفك وكلماتك الصادقة في كل مفصل نضالي، لبناني، فلسطيني، ومن أي قطر عربي، أن يعتبر نفسه صديقا لك...

من حّق (أم جبر وشاح)، رفيقك في السجن، الذي تحرر منذ سنوات قليلة، والتي تبنّتك لسنوات فصرت فلذةً من كبدها، والتي التقيتها شخصيّا قبل سنتين في بيروت، وكانت في زيارة لأسرتك في الجبل، في قريتك مسقط رأسك(عبيّة)، وحملت في قلبها حّب ووفاء فلسطين، ومضت إلى ذويك ومعها رفيقك جبر وشاح، ابنها المثقّف المناضل الميداني الكبير، شقيقك في ( التجربة)، ليجتمع شمل الأسرة الواحدة، اللبنانيّة الفلسطينيّة..أن تفرح، وتزغرد، هناك في غزّة، وآه لو كان معبر رفح مفتوحا، لنلتقي بها في بيتك، رغم عناء السفر على السيّدة _ الأم، التي بلغت الثمانين، ونفرح بفرحة لقاء الابن اللبناني وأمه الفلسطينيّة.

قبل سنوات يا سمير الغالي، وبعد أيّام من عملية ( جمال عبد الناصر)، التي قدتها، وقفت خطيبا في عاليه، في حفل تكريمي لك ولرفاقك، وخاطبت السيّدة التي رعتك، وأهلك في الجبل، وأقسمت أن من يعش منّا سيلتقي بسمير، وأن سميرا سيتزوّج، وينجب، ويكتب تجربته، ويضيف خبرةً لمن سيأتون بعده...

ها هو الأمل يتحقق، لا بالمساومة، ولكن بالمقاومة...
يا سمير، هناك رجل بعمامة، أرى ابتسامته الرائقة الواثقة، وهو يتابع عمليّة نقلك وإخوانك من أرض الجنوب محررين، محلّقين في سماء لبنان، و..بلقائكما سترى الأمّة صورة تليق بكما: السيّد بوعده الصادق وأنت بصبرك وصلابتك، وابتسامتكما تضئ في قلب كّل عربي مؤمن ومحّب لفلسطين، فخور بلبنان المنتصر بمقاومته، لا بضعفه، والذي (أهدى) العرب أعظم الانتصارات في زمن اليأس والخراب...