أخطأت حماس وأخطأت فتح وبقية الفصائل من جهة أخرى بحق فلسطين عندما فشلت جميعاً في الإتفاق على حكومة وحدة وطنية. الطرفان تعنتا والمسؤولية لا تعفي أياً منهما. حماس التي صاغت برنامج سياسي للحكومة غاية في الذكاء والحرفية السياسية كان بإمكانها أن تعدّل من موقفها إزاء منظمة التحرير بكونها الممثل الشرعي والوحيد بشكل لا يفرط بحقها في أن تتمثل في المنظمة بحجمها الطبيعي، ويحفظ في الآن نفسه رمزية وشرعية المنظمة التي هي أهم من السلطة الفلسطينية وتعتبر الخزين الإستراتيجي للشعب الفلسطيني برمته، في الداخل والخارج. كان بإمكان فتح، في المقابل، ان تلملم جراحات هزيمتها في الإنتخابات وإعتماد مبدأ المشاركة والتفاوض حوله بجدية، عوض التمسك بموقف مسبق موغل في الحسابات الحزبية وتمترس منذ اليوم الأول حول فكرة «ترك حماس لوحدها تواجه الفشل». بقية الفصائل كان عليها تقدم مبدأ الوحدة الوطنية على المناكفة الحزبية وتوهان البوصلة بشكل عام، خاصة وأن حجمها الشعبي مخجل كما أظهرت الإنتخابات. فتح تحديداً كان ولا يزال مطلوباً منها إدراك حقيقة صلدة، ومريرة على الفتحاويين بكل تأكيد، وهي أن الشرعية الفلسطينية بعد الإنتخابات الأخيرة دخلت مرحلة مختلفة تماماً، وأن وقائع جديدة جداً قامت على أرض السياسة الفلسطينية، ولا يمكن أن تعود الأيام الخوالي التي كانت فيها فتح تستمتع بالإنفراد بالقرار الفلسطيني.

المشكلة الخطيرة جداً المترتبة على فشل حماس وفتح تشكيل حكومة وطنية تكمن في أن الجهد الفلسطيني في السنوات القليلة القادمة سيُستنزف في الصراع الداخلي على حساب الصراع مع إسرائيل. ستتسيد الساحة السياسية الحسابات الحزبية، والمناكفات، وتسجيل النقاط، وإلتقاط الأخطاء، وكل ما يحدث في الحياة الحزبية من منافسات تكون متوقعة في بلد مستقل لا تحتل أجندته الوطنية مسألة التحرر من الإحتلال العسكري والصراع مع عدو فائق القوة. الفضيلة الكبرى التي كانت مؤملة من حكومة وطنية هي توفير كل ذلك الجهد، أو على الأقل معظمه، لتوجيهه للصراع مع إسرائيل. الآن سيُستخدم الصراع مع إسرائيل، وهو القضية الوطنية المركزية، كأداة لتسجيل النقاط الحزبية بين فتح وحماس، لتعزيز إستراتيجية الإفشال المتبادل.

فلسطين ومنظمة التحرير أهم من أن يُتركا لصراعات فتح وحماس الحزبية، ومن المهم واقعياً ووطنياً معاودة إدراك الحقائق الآتية في ضوء المناكفات الأخيرة وفي ضوء برنامج حكومة حماس:

- أولاً: منظمة التحرير مكسب تاريخي ووطني ودولي للشعب الفلسطيني, والإعتراف بها كإطار موحد للشعب الفلسطيني يجب أن لا يخضع للمساومات الحزبية. يحق لحماس أن تعترض على بنية المنظمة الداخلية، وعلى هشاشتها الراهنة، وعلى سياستها، وعلى برنامجها، وعلى أي شيء له علاقة بها، لكن لا يحق لها المساس بشرعية المنظمة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، قادته فتح في الماضي، ويمكن أن تقوده حماس في الحاضر، وأن يقوده أي تيار يفوز بثقة الشعب الفلسطيني في المستقبل.

- ثانياً: برنامج حكومة حماس، والذي اقترحته على بقية الفصائل، تم صوغه كما يبدو بحنكة فائقة، وفضلاً عن كونه يقدم تطوراً فكرياً لافتاً جداً في فكر الحركة ونظرتها للعديد من الأمور، بما في ذلك تقديم السياسي فيه على الديني، فإنه يمثل في الجوهر برنامج الحركة الوطنية الفلسطينية بعقلانيتها وأحلامها في آن معاً. ومن الغريب فعلاً أن لا يحظى هذا البرنامج بموافقة ودعم الأطراف الفلسطينية المختلفة. فلا هو ببرنامج راديكالي يدعو لتدمير إسرائيل كما هي التهمة العالمية للفلسطينين وحماس، ولا هو ببرنامج يُطالب الفصائل الفلسطينية الأخرى بتقديم تنازلات كبيرة أو تبني خط حماس أو سوى ذلك. نقطة ضعفه الأساسية التي فشلت حماس في صوغها بطريقة ناجحة هي مسألة الإعتراف بمنظمة التحرير، وهي نقطة كان بالإمكان صوغها جماعياً (حماسياً وفصائلياً) بطريقة تقبلها الأطراف كلها. ونقطة ضعفه الثانية، الأقل أهمية بسبب إنتمائها للرطانة الحزبية لا أكثر ولا أقل، هي الدعوة إلى «تحصين المواطنين من الغزو الفكري»، وهي لغة أبوية وستالينية لا تليق بحركة حماس.

- ثالثاً: الأسباب التي تسوقها حماس لتبرير موقفها من عدم الإعتراف بمنظمة التحرير كما هي الآن هي في الواقع الأسباب التي يجب أن تدفعها للإعتراف بها وإعادة تفعيلها. فالحديث عن ترهل المنظمة، وهامشيتها السياسية، وعدم إنطباق المحاصصة الفصائلية فيها على تمثيل ووجود تلك الفصائل في أوساط الشعب الفلسطيني، وغير ذلك من الإعتراضات، هي الأمور التي تستوجب من حماس الإندفاع نحو تعديل وتفعيل المنظمة، ولن يكون ذلك ممكناً من دون الإعتراف بها كإطار موحد للشعب الفلسطيني. لن تتفعل المنظمة من لدنها، ولن تعيد تشكيل نفسها بنفسها، بل تحتاج إلى آليات خارجية وفاعلين جدد. يمكن لحماس أن تتسمر عند نقد المنظمة ونقد فتح وبقية الفصائل لأنهم لم يقوموا بتفعيل المنظمة بحسب إتفاقات القاهرة وتظل تفعل ذلك لسنوات. من دون أن تبادر هي في المرحلة الحالية وتتبنى فكرة تفعيل المنظمة بشكل جدي، وليس كمساجلة سياسية وحزبية مع فتح وبقية الفصائل، فإن الأمور ستظل تراوح مكانها.

- رابعاً: على حماس أن تعي حدود دورها وحجمها والبيئة الإقليمية والدولية المحيطة بها أيضاً، وما تشترطه تلك على حماس من النظر بعقلانية لدور المنظمة ليس فقط بكونها الإطار الأوسع للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، بل أيضاً المظلة التي سيقبل العالم التعامل مع حماس تحتها, سواء لغايات توفير الدعم المالي للفلسطينين أو غير ذلك. هناك دول وأطراف وجهات متعددة تجد حرج في التعامل مع حماس كحركة سياسية وتنظيم لأسباب كثيرة, وتتمنى أن تجد حماس صيغة مخففة تخرج الآخرين من هذا الحرج. ومن المفهوم هنا أن تأخذ حماس العزة بالحزب وترفض إلا أن يتعامل معها الآخرون كما هي. بيد أن في ذلك تعنت يفوت مصالح فلسطينية عديدة، فحماس الآن في موقع القيادة ومراعاة مصالح الشعب والقضية الفلسطينية وليس تكريس نفسها كحزب. والتحرك ضمن إطار منظمة التحرير يوفر مساحة مريحة لعدد من الأطراف إقليميا ودولياً للتعامل مع حماس بشكل غير مباشر. على حماس تقديم المصالح الفلسطينية هنا على المصلحة الحزبية الفئوية.

- خامساً: كما على فتح أن تعي دخول الساحة الفلسطينية مرحلة جديدة بفوز حماس في الإنتخابات، وتعي ضرورة تخليها عن غرورها السياسي وتعيد ترتيب حساباتها على أسس الواقع الجديد، فعلى حماس أيضاً أن لا تقع في فخ الغرور بفوزها، خصوصاً وهي تعلم أن فشل فتح ساهم كثيراً في تحقيق ذلك الفوز. وهناك مؤشرات مقلقلة ويجب الإنتباه إليها قبل أن تتفاقم. فهناك أولاً تصريحات غير محسوبة يُفهم منها أن حماس دولة عظمى ولن يعترض طريقها أحد أو شيء. وهناك ثانياً، وهو الأهم، ما لم تتمكن حماس من فعله وتأكيده وهو أنها تريد إشراك الآخرين فعلياً, وليس تجميلياً وديكورياً، في حكومتها وحكمها. إذ عندما أعلنت أن رئيس الوزراء سيكون من حماس، وأن رئيس المجلس التشريعي سيكون هو ونائبه من حماس، ثم تلا ذلك حكومة وزير خارجيتها وداخليتها وماليتها وإقتصادها، ونائب رئيس وزرائها كلهم من حماس فإن ذلك معناه تشدد في الإمساك بمقاليد ومفاصل الحكم. وبرنامج حكومة حماس، على ما فيه من عمق وتطور سياسي, يشي بما يتجاوز الثقة العالية في النفس إلى القناعة بالقدرة على تحقيق المستحيل. فما ورد في البرنامج بدءا من النقاط الخاصة بالصراع مع إسرائيل، ودحر الإحتلال، وعودة اللاجئين، وتفكيك المستوطنات، ثم تحقيق الإصلاح، ومحاربة الفساد، وتطوير الإقتصاد، والإرتقاء بالتعليم والصحة والزراعة، وكل ما قد يخطر على بال أي حكومة مستقرة في أسكندنافيا، يحتاج إلى عشر حكومات نظيفة دفعة واحدة لتحقيقة في أربع سنوات، مع إشتراط صوم العدو الإسرائيلي عن القيام بأي خطوات عسكرية أو قمعية أو حصارية أو ديبلوماسية معيقة لبرنامج تلك الحكومة.

- سادساً: التحدي الأكبر أمام حماس, وفتح, والرئاسة الفلسطينية, ومنظمة التحرير الفلسطينية، هو كيف يمكن أن يتناغم، لا أن يتصادم، الجهد الفلسطيني في المرحلة المقبلة لمواجهة السياسة الإسرائيلية لحزب كاديما القائمة على فرض الأمر الواقع عن طريق أحادي، وترسيم حدود للدولة العبرية تقوم على حساب المصالح الفلسطينية، حيث تعتمد جدار الفصل العنصري كحدود سياسية، وتضم المستوطنات وغور الأردن والقدس، وتأكل نصف مساحة الضفة الغربية. وذلك كله بالتوازي مع فصم قطاع غزة وإعتماد حدوده مع مصر كحدود دولية من جهة لكن من دون السماح بالتنقل بينه وبين بقية الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بما يخلق ويكرس قطيعة جغرافية. كيف يمكن مواجهة هذا المخطط المخيف وحشد العالم ضده؟ على حماس أن تتأنى ألف مرة في إعتبار الإنسحابات الإسرائيلية أحادية الجانب «إنتصاراً لمنطق المقاومة»، لأنها تنطوي على مخططات كارثية. ويمكن القول وبكل أسف أن هذا التحدي هو الموضوع الأقل نقاشاً الآن في إطار المساجلات الحزبية الفلسطينية وتسجيل النقاط، وسوف يظل كذلك في المستقبل القصير المنظور بسبب غرق الفلسطينين في صراعاتهم الداخلية، في وقت ترسم فيه إسرائيل وتنفذ ما تريد وتنتزع عليه موافقة العالم الذي يراقب إصطراع الفلسطينين وعدم أهليتهم لتسوية أمورهم ومواجهة إشتراطات قضيتهم المصيرية. المهمة الكبرى التي تواجه حماس وفتح وبقية الفلسطينين الآن هي كيفية إعادة الأولوية للصراع مع إسرائيل، والخروج من الإنغماس الداخلي والفصائلي.