"المؤتمر العام للجماهير العربية ضد آفة العنف والاحتراب الداخلي" والذي سيعقد نهاية الاسبوع في ام الفحم، هو حدث اهم ما فيه مجرد انعقاده، وذلك في حال شكل بداية لمؤتمر فعلي مستقبلي.

وأقصد بأهمية إنعقاده من باب وضع موضوع العنف المجتمعي على جدول أعمال لجنة الرؤساء نيابة عن لجنة المتابعة كموضوع شاغل وجدير بالبحث وهو بحد ذاته أمر إيجابي. وفي المقابل يطرح التساؤل حول قدرة هذا المؤتمر على إثارة نقاش شعبي هادف ومولّد لحراك شعبي ومؤسساتي.

ودون التطرق إلى الطاقم التحضيري المهني والمتحدثين الذين أكن لجميعهم التقدير والإحترام وكونهم ذوي تجارب مهنية عالية والتزام إجتماعي وطني، فان النقاش ليس معهم. وعلى العكس فانهم يقدمون جزءا من الصورة حول سعة الطاقات المهنية العالية داخل مجتمعنا كنقطة قوة للمجتمع الفلسطيني. وبما إنني شاركت في بعض نقاشات اللجنة التحضيرية، فانني اؤكد أن النقاش هو من باب وجهة نظر مقابل وجهة النظر السائدة ونظرة الجهة المبادرة صاحبة القرار وكيفية تنظيم مؤتمرات تصبو إلى التحلي بالصفة التمثيلية نيابة عن المجتمع الفلسطيني أو الهادفة الى تنظيمه دون إشراكه.

وفي هذا السياق أيضا تأتي وثيقة مكافحة العنف، التي جاءت بشكل فوقي وخارج أي سياق وأي مسار لتغيير السلوك المجتمعي.

هذه الوثيقة لم تكن نتاج حوار مجتمعي ولا حزبي ولا مؤسساتي، بل مجرد نتاج عمل مكتبي. فهل من يوقع عليها ملزم او ملتزم بسلوكيات تتلاءم وقيم الوثيقة. إنها وثيقة يستطيع كل فرد داخل مجتمعنا أن يوقع عليها ولكنها ذات الوقت لا تلزم اي فرد كونها ليست نتاج المجتمع بتفاعلاته وتفتقد الى الضوابط.

للأسف، يستطيع عمليا رجل يمارس العنف ضد المرأة ان يوقع عليها، إنسان متعصب عائليا أو طائفيا يستطيع التوقيع عليها، إنسان شارك في طوشة عشية إنتخابات سلطة محلية أو غداتها سيوقع عليها، فالجميع في حل من الإلتزام. وسيوقع عليها الكثيرون الكثيرون المقتنعون بقيم مكافحة العنف المجتمعي. لكن بهذه التشكيلة ستفقد من قيمتها الإجتماعية.

متى تستطيع مثل هذه الوثيقة أن تنجح؟ أي أن تشكل معيارا إجتماعيا نتفق عليه ونلتزم به فعلا؟ إنها تكون كذلك من خلال تنظيم المجتمع الفلسطيني ومن خلال مؤسساته المنتخبة.

مثلا لو قررنا أن تكون لجنة المتابعة منتخبة مباشرة من الجماهير الفلسطينية فعندها بإمكان مثل هذه الوثيقة أن تكون ملزمة للأفراد والتيارات في عملية الترشيح والانتخاب، ضمن ضوابط ملزمة متفق عليها وشرط للمشاركة في بناء المؤسسات التمثيلية وانتخابها.

وفي هذا السياق هناك أهمية لمواثيق الأخلاقيات في المؤسسات كونها ضوابط ملزمة في العضوية والمسار، وهذا البعد الجوهري تفتقده المبادرة طي البحث، خاصة أنها تهدف أن تتحدث بإسم المجتمع ككل أو نيابة عنه.

روح المؤتمر ومنهاجيته فيها وللأسف إستبعاد المشاركة الجماهيرية التي بغياب المؤسسات القيادية والتمثيلية المنظمة للمجتمع فإن مثل هذه المشاركة هي الضمانة الوحيدة لمواجهة العنف خاصة الجماعي داخل المجتمع الفلسطيني.

فمواجهة مظاهر العنف هي ممكنة إلى حد ما وجزئيا فقط من خلال تنظيم المجتمع، وتنظيمه من خلال مؤسساته المنتخبة مباشرة من الناس مصدر شرعيتها، وليس من خلال تجميع الممثلين في المرافق المختلفة كما الوضع الآن في لجنة المتابعة التي يتراجع دورها باستمرار. ناهيك عن التأكيد أن التغييرات الاجتماعية لم ولن تكون نتاج قرار صادر عن إجتماع أو توصيات مؤتمر بدون حد أدنى من الإشراك الجماهيري باستثناء دور المستمعين.

فالتغيير هو نتاج تطور وأحيانا نتاج حالة عامة إجتماعية سياسية أو شعبية قادرة أن تنتج هويات أكثر تطورا مما هو قائم، هويات تشد باتجاه الخارج أو الخارجة عن المركز والقاعدة وليس تلك التي تشد باتجاه المركز لتحافظ على القاعدة.

وإذ لا نستطيع حل الصراعات فعلا والقضاء على آفة العنف في المجتمع يصبح المطلوب ليس حل الصراعات بل إدارتها والسعي لمحاصرتها ومنع تصعيدها ومعالجة تبعاتها وكلها ليست بالامر القليل.

ولا يمكن أن نتوقع من أنفسنا كمجتمع أكثر في المستقبل المرئي. فنحن نعيش في صراع ونتاج صراع ونتاج غبن تاريخي يعيد إنتاج ذاته في محاولة تهميش ونزع إنسانيتنا وتحجيم مستمر لآفاق تطلعاتنا لنغوص في ما تدعي دولة اسرائيل احترامه – اي "تميزنا الثقافي".

وإسرائيل عمليا "تحترم" ما تسميه تميزنا الثقافي أو تعترف به فقط في حالات العنف المجتمعي الداخلي. مثل العنف ضد المرأة وجريمة شرف العائلة والتعصب العائلي والطائفي والجهوي الذي يحتاجون اليه كدولة من أجل مواجهة هويتنا الجماعية الوطنية الانسانية وتحويلنا كما يسعون الى أقليات جهوية وكما يسعون تجاه كل شعبنا الفلسطيني بالقضاء على بنيتنا كشعب وكمجتمع. فالإحتراب الداخلي في جوهره يشكل أيضا أداة مراقبة وسيطرة من قبل الدولة لأننا كمجتمع سنرتبط بها أكثر وبالأصح سنرتبط بأجهزتها بالذات التي تقمعنا، أي أجهزتها الأمنية والقضائية.

جدير بلجنة المتابعة حتى بمستوى أدائها وتنظيمها الحالي، أن تعطي تصورا أو تصبو لبلورة تصور جماعي لتنظيم المجتمع الفلسطيني، وليس الإستعاضة عن القرار السياسي الأهم المطروح اليوم حول تنظيم المجتمع الفلسطيني، بمهننة التعامل مع ظواهر تعيق بنيويا التقدم باتجاه تنظيم المجتمع.

آفة العنف والإحتراب الداخلي تمس صلب مبنانا الإجتماعي من جهة وصلب علاقتنا بالدولة كبيئة عنيفة معادية وفعالة في خلق الإحتراب الداخلي وفي القمع الخارجي لنا. والمثل الأكثر فظاظة مؤخرا كان تدخل الدولة في قضية شهاب الدين في الناصرة التي تلاحقنا سنين طويلة كوننا لم نكن قادرين كمجتمع أن نجد لها حلا أهليا مجتمعيا في الوقت المناسب.


ومع فقدان الرؤية الحقيقة لدى قيادة لجنة المتابعة والقطرية والرسالة الواضحة، يأتي خطر التوجه التبشيري، ونقف أمام تحدي تحاشي التبشيرية لأنها سوف تبرر نهج "من باب القيام بالواجب" وانتهاء المسؤولية. تعني نهاية المسؤولية تجاه تبعات الموضوع. والتبشيرية هي زرع الوهم وتصويره كما لو كان حقيقة، وكي لا نتفاجأ غداة المؤتمر بموجة العنف القادمة.

أخفقنا جميعا كمؤسسات وحركات وقيادات في مواجهة الإعتداءات الطائفية في قرية المغار قبل أشهر، والحقيقة أنه رغم الجهود الخيرة الكثيرة التي بذلت، لم نكن نملك القدرة كمجتمع على مواجهة مثل هذا التحدي ولا نزال كذلك. وعدم امتلاك القدرة لا يعني التبرير أو الركون إلى السلبية. بل إن مستوانا التنظيمي ومستوى أداء مؤسساتنا القيادية وتنظيم المجتمع القائم عاجز عن مواجهة هذا النوع من التحديات.

لجنة المتابعة ليست قيادة بهذا المفهوم وليست قيادة ناتجة عن تنظيم المجتمع أو أن مبناها كان مناسبا لمرحلة بلورتها أوائل الثمانينيات، ولجنة الرؤساء والتداخل بين اللجنتين يضعف "المتابعة" بنيويا كون السلطات المحلية من ناحية معتمدة بنيويا على وزارة الداخلية الإسرائيلية من جهة ومن جهة مجتمعية في غالبيتها معتمدة على بنى المجتمع الأبوي التقليدية وعلى الهويات الجهوية والفئوية المنبثقة عنها بما فيها تلك المولدة للعنف في تفاعلاتها وبالذات التعصب العائلي والطائفي.

التعصب الطائفي أو العائلي أقوى من الحركة السياسية المنظمة، وقادر على التجنيد والتغذية الذاتية وإنتاج ذاته أكثر من التجنيد الراشد، فهو مخترق للأجيال وللبلدة وهو ما يؤدي بأجيالنا الصاعدة إلى التفتيش عن "مصادر القوة" من خارج المجتمع ولا مصدر غير الدولة من خلال التجند للجيش والشرطة لنزداد عنفا داخليا.

إن دور لجنة المتابعة يجب أن يتمحور في محور البنى المولدة للإحتراب الداخلي وفي محور العلاقة مع الدولة المولدة للعنف أيضا تجاهنا وللعنف داخل المجتمع. أي بتفاعلات المجتمع الرئيسية الداخلية منها والخارجية والعلاقة بينهما. وغير ذلك أن تدعم المبادرات المؤسساتية العامة أو التخصصية وتتبني مواقف تدين كل أنواع العنف المجتمعي. أي أن تسهم في خلق بيئة مؤاتية للحركات الاجتماعية على تعدديتها والمناهضة للعنف المجتمعي بتجلياته المختلفة.

أما القيام بالدور الفعال والمستديم فإنه موضوع جدير بأن يؤخذ بالحسبان ضمن السعي إلى بناء المؤسسات الجماعية وإعادة بناء لجنة المتابعة وإدماج موضوع العنف والإحتراب الداخلي والضوابط وذلك من خلال تنظيم أنفسنا كمجتمع.