هل نحن مجتمع عنيف بالفعل ؟هل نحن مصابون بالمرض المزمن "العنف " الذي افقدنا مناعتنا و تسلل الى بيوتنا فسرق منا راحتنا و امننا ؟
هل نحن مسجونون في زنزانة " العنف " و محكوم علينا بان نحمله –قسرا-على رقابنا ؟
هل اصبحنا نؤمن بان كل مشاكلنا لا يمكن ان تحل الا بالعنف : بالرصاصة او القذيفة او البيان الصارخ و اللغة الحادة ؟
هل صار العنف عندنا "ثقافة " مغروسة في اجسادنا و لحمنا و عصبنا حتى بات لصيقا لنا في نومنا و يقظتنا ؟ اخاف اننا استسلمنا له حتى اصبح السيد المطاع في كل مكان : البيت ,الحارة ,العائلة , العشيرة , التنظيم , الجامعة ...لم يعد مكان آمن منه !!لقد بات "يلعب "بنا و يمسك زمامنا و يجرنا الى الهاوية !!حتى اطفالنا غادرتهم البراءة و سكنهم الخوف و العنف معا !!
لقد اصبح كابوسا مرعبا و مخيفا , يجري خلفنا , و هو يحمل فأس الموت الذي يقطر دما ...لقد اصبحنا اسرى لهذا "المجنون " الذي استلب منا خيرة شبابنا و ابنائنا !!
هل كابوس الاحتلال و صراعنا الدموي معه جعلنا اكثر عنفا مع انفسنا حتى باتت القوة هي "الحل الوحيد " فيما توارت لغة الحوار و التفاهم ؟
كل شيء اصبح يتلبس بالعنف !! كما الجن حين يتلبس الانسان : يفقده عقله و صوابه و يغير من بوصلته حتى يصبح تائها ضائعا!!
. افراحنا اصبحت بلا طعم و لا معنى الا اذا اطلقنا فيها زخات من الرصاص و "لعلع" فيها البارود مع زغاريد النساء !!
في احزاننا و في جنازاتنا لا تغيب فوهات بنادق "الصناديد" الذين يتبرعون ب"تخزيق" الهواء بمئات الطلقات ...
مسيراتنا –بغض النظر عن هدفها و لونها السياسي – لا يمكن ان تسلم من عشرات البنادق و زمر المسلحين الذين يعتلون اسطح السيارات و البنادق مشرعة , فيما يتكيء شبان صغار على نوافذ السيارات و هم يخرجون فوهات الكلاشينات و هم فرحون مسرورون !! .
المشاكل العائلية اصيبت هي الاخرى بداء العنف المزمن !! فاذا اختلفوا على قطعة الارض كانت الرصاصة اسبق من الكلمة ...و اذا اختلفوا على كلمة كانت القذيفة اقرب ...و اذا كانت مشكلة طلاق او زواج حل "الكلاشنكوف " بدل المأذون و انقلب الفرح الى مأتم !!
في مشاكلنا الحزبية جاء هذا الشيطان المريد "العنف " ليسرق منا اخوتنا و محبتنا و يبدلنا بدلا منها كراهية و بغضا و دموعا ...سرق منا لغة الاخوة و دس لنا قطعة سلاح بدلا منها ...سرق منا محبتنا التي جمعتنا تحت سقف الوطن ليدس لنا بيانا صارخا جارحا ...سرق منا وحدتنا ليمزقنا صفين , بل ثلاثة و عشرة و جعل بأسنا بيننا شديدا لدرجة لا تحتمل !!
حينما "نزعل" من شركة الكهرباء فليس امامنا حل الا بتحطيمها و تكسير اثاثها ...و حين نغضب من البلدية او المحافظة فليس لك الا ان تستدعي مجموعة من المسلحين الملثمين ليمتطوا سقفها و يشهروا اسلحتهم امام الفضائيات , " ابطال المرحلة "!! المسيرات "السلمية " تحت هيعة صغيرة تتحول الى مسيرة حجارة و رصاص و صدام ..الاضرابات بدل ان تأخذ طابعها الحضاري و القانوني تحولت في بعض الاحيان الى عنف يطال المدارس و المؤسسات و الطرق العامة !!
و حين يغضب رجل من زوجته فليس امامه الا ان يأتي بمجموعة من المسلحين" الجاهزين " ليغلقوا الطرق و يسدوا السبل امام المسافرين !! تحويلة العلاج للخارج تحصل عليها بقوة السلاح و العربدة , و بامكانك ان تحجز لك دورا على "معبر رفح من خلال مجموعة مسلحة, و المستشفيات اصبحت فريسة سهلة لترغم اطباء على العمل باشهار السلاح في وجههم ...
حطمنا المدارس بعنفنا ... هاجمنا المجلس التشريعي بسلاحنا..احرقنا مجلس الوزراء ... و شهرنا البنادق في وجوه نواب ووزراء و مسؤولين ...ماذا تبقى للوطن ؟ و ماذا تبقى لنا من كرامة و امن ؟
ماذا تبقى لنا و نحن نمارس العنف ضد انفسنا , ضد مواطنينا , ضد من يفترض ان نحميهم و نلوذ عنهم ..اليس من الاولى ان نخجل من انفسنا ...نخجل من هذا السلوك المشين الذي يفضحنا امام شعبنا و امام العالم ..
ثم بعد ذلك نخرج الى المؤتمر الصحفي بملابس نظيفة و انيقة لنقول لشعبنا الفلسطيني " الدم الفلسطيني خط احمر ..الدم الفلسطيني حرام ...".هل تجاوزنا كل الخطوط الحمراء و الزرقاء و السوداء و كل لون . منذ شهر يناير الماضي قتل اكثر من 175 فلسطينيا برصاص فلسطيني فضلا عن مئات الجرحى و المعاقين ..لو كنا نفكر بالعاقبة لما كنا فعلنا ما فعلنا ..ولو حكمنا عقولنا لكنا وفرنا الكثير من الدماء و الدموع و الحسرة و الالم ....لو فكرنا بالعاقبة لكنا زرعنا شوارعنا وردا بدلا من رائحة الدم المحترق برصاص البارود ..
تسألون من المسؤول عن هذا المرض الخبيث ؟ سؤال كبير , و جوابه يحتاج الى عقل واسع وفهم عميق بعيدا عن ردة الفعل و الفوضوية الفلسطينية ذات العلامة المسجلة !! لا مقام هنا لتوزيع الاتهامات يسرة و يمنة ( ليس هذا تهربا من اجابة مباشرة ). العنف ثقافة و تربية و سلوك, و ليس مجرد تظاهرة حزبية او سياسية . و بالتالي ليست معالجته من قبل وزارة او قانون فحسب – رغم اهميتها الشديدة-لكن اذا كان البيت يزرع العنف و اذا كانت المؤسسة و التنظيم و الشارع و الاعراس و الجنازات كلها تزرع العنف فمن يكون المسؤول اذا ؟؟ هل نحن جميعا نتحمل المسؤولية ؟ نعم !! هل مشاركون بهذا الاثم العظيم ؟نعم !! هل نحن قادرون على ازالة العنف من قاموسنا و احلال لغة الحوار و التعاون ؟ نعم قادرون اذا توفرت النية الصادقة و الحس الوطني و العمل الدؤوب!!كلنا –حكومة و شعبا و فصائل و مثقفين و مفكرين و اصحاب قلم -يجب ان نعمل في حقل الوطن لنقتلع هذه الاعشاب الضارة حتى ينبت الورد و نرى نور الشمس .انا اؤمن بان " الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقران " لكن قوة السلطان –في واقعنا الحالي –تحتاج الى توافق و "مؤاخاة "بين ابناء الشعب الواحد و من قاتلوا في خندق واحد...
كلنا لدينا رغبة الا نرى قطعة سلاح في الشارع الا لرجل الامن ,و كلنا لدينا رغبة ان تمر افراحنا و جنازاتنا و مسيراتنا بلا صخب و لا جلبة و لا ضحايا !!
كلنا لدينا رغبة جامحة ان يظل سلاحنا نقيا طاهرا مبرأ من قطرة دم فلسطينية ...
نحن بحاجة الى قليل من الهدوء , قليل من راحة النفس , قليل من الفكر المتعقل !!
ان العنف لم –ولن- يجلب لنا الا الدم و الاحزان و الثأر و الثأر المضاد , و البيان و البيان المضاد, و المسيرة و المسيرة المضادة ...سلسلة طويلة من النكد و المناكفة و الحسرة التي لا تنتهي !!
نريد ان نبرأ من هذا المرض-السرطان- الذي اتلف ادمغتنا و شل قلوبنا و اغلق منافذ رئتنا !! نريد ان نبرأ من هذا الوحش الذي يسكننا و ينام معنا في فراشنا و يختبيء بين اللقيمات التي نأكلها !! نريد ان نرى لحظة سلام ... لحظة صفاء ..لحظة لا يرتعد فيها الصغير من صوت الرصاص الصاخب ,و لا يهرب المار من رصاصة طائشة !!
ارحموا شعبكم من هذا الصخب ..ارحمونا من هذا العنف !!
بالله عليكم لا تقتلوا فينا الامل و لا تزرعوا فينا الاحباط !!
لا تكرهونا في الوطن ..
لا تكرهونا في قطعة السلاح التي كانت دوما عنوان مقاومتنا و شرفنا و كرامتنا ...
لا تكرهونا في افراحنا و جنائزنا و مسيراتنا ..
لا تجعلوا عدونا يشمت بنا ..
لا تجعلوا الفضائيات تنشر غسيلنا امام عالم لا يرحم ..
دعونا نسير بسلام ..نجلس بسلام ..نتحاور بسلام ...ننام بهدوء
اليس من الاولى ان نخاطب انفسنا بلغة اكثر هدوءا, اكثر عقلانية , اكثر استيعابا ؟؟ ..
اليس من الاولى ان نعلم اجيالنا لغة الحب و التفاهم وادب الحوار ...
لماذا لا نكون فيما بيننا " اذلة على مواطنينا اعزة على اعدائنا " ؟
, لماذا لا ندرب انفسنا على كظم الغيظ و الصبر الجميل و تحمل بعضنا البعض ؟ اليس هذا من شيم القران و جمال الاخلاق و عظمة القيم و ركائز الوطن ؟
هل لنا ان نعقد مؤتمر "مصارحة و مصالحة " ,نندم فيها على ما اقترفنا من اخطاء وخطايا ,و نعترف فيها ,ونعاهد الله ثم نعاهد شعبنا ان نطلق العنف الى الابد والا نلجأ بعد اليوم الى رصاصة او قذيفة او كلمة شائنة و ان نغلب فينا روح التسامح و المحبة !!
هكذا تبنى الاوطان ,هكذا يبنى الانسان !!
هكذا يمكن ان نقطع شوطا طويلا في مسيرة الاستقلال و التحرر بدلا من قضاء ايام التوتر و الاحتقان و النكد !!
اسمعوا لرسول الله (ص) و هو يقول " ان الله يعطي على اللين ما لا يعطي على العنف و يعطي على اللين ما لا يعطي على شيء سواه "
"ادفع بالتي هي احسن فاذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم ",من يقرأ و من يفهم و من يطبق ؟
فلنجمع اسلحتنا من شوارعنا ,من بيوتنا و لنرفع شعارنا : فيما بيننا الحب و الحوار و التفاهم ,و فيما بيننا و بين عدونا الصمود و القوة و المقاومة ... معادلة صحيحة دائما ,فلا تقلبوها رأسا على عقب ..
يرحمنا و يرحمكم الله !!


* الناطق باسم الحكومة الفلسطينية