اشتعال المقاومة ضد المحتل الأجنبي ضرورة موضوعية، بل قانون عام، ومسألة بدهية في حياة الشعوب التي تعرضت للاستعمار، فما مِن شعب حُرِمَ مِن حقه في الاستقلال الوطني وتقرير المصير إلا وقاوم المحتلين بالمعنى الشامل لمفهوم المقاومة، وذلك بصرف النظر عن التمايز في سرعة الشروع في المقاومة وأشكالها.

تلك حقيقة، والفلسطينيون ليسوا استثناء على هذا الصعيد، بل يمكن القول أن الطبيعة الاستثنائية للاحتلال الإسرائيلي، لجهة كونه احتلالاً استئصالياً، فرضت النشوء المبكر للحركة الوطنية الفلسطينية، أي حتى قبل "النكبة" بالإعلان الرسمي عن قيام دولة إسرائيل عام 1948، وذلك بمعزلٍ عن التقلبات التي مرت بها حركة المقاومة الفلسطينية، بمعنى علو وتيرتها في مرحلة زمنية معينة وخفوتها في مرحلة أخرى ارتباطاً بظروف الصراع وشروطه الموضوعية في كل مرحلة.

كما يسجل لصالح الفلسطينيين ضآلة وهامشية ما نشأ في أوساطهم مِن حركات سياسية مرتبطة بالاحتلال، قياسا بما كان في واقع شعوب أخرى جرى استعمارها. فما نشأ في الأوساط الفلسطينية مِن هذه الحركات، مثل "روابط القرى" مثلا، كانت حركات عابرة وليست ذات شأن، وجرى دفنها في مهدها بيسر وسهولة، ولم تشكل سوى مظهراً ثانويا في مسيرة الشعب الفلسطيني النضالية المديدة، ذلك رغم طول مدة الاحتلال وبشاعة ممارساته وسعيه الدائم والمبرمج لخلق مثل هذه الحركات، ورغم تشتت الفلسطينيين في أركان المعمورة الأربعة، بكل ما عناه ذلك مِن تداخل موضوعي لحركتهم السياسية مع الحركة السياسية للبلدان التي يعيشون فيها، ورغم أن القضية الفلسطينية كانت منذ النشأة قضية دولية، ووقفت ضد عدالتها، وما زالت تقف، أطراف دولية مسيطرة ونافذة في السياسة الدولية وتحديد مصائر الشعوب.

ظلت الوحدة السياسية للفلسطينيين، وما زالت، مستهدفة. وبالتالي، فقد شكل حفاظ الفلسطينيين على وحدة حركتهم السياسية، وتجاوز مؤامرات خلق التطلعات والأجندات المتباينة في أوساطهم، الانجاز الأكبر في مسيرتهم النضالية المديدة، وخاصة منذ احتلال ما تبقى مِن أرضهم عام 1967.

ما تقدم لم يكن بدون معنى، بل خلق ما يجب أن يكون في واقع شعب يعيش ظروف احتلال اجنبي. وبضمن ذلك قياس انجازات كل طرف مِن أطراف حركته الوطنية بمقدار ما يقدمه للحلقة المركزية في حياته، اعني مقاومة الاحتلال والتخلص منه على طريق احقاق الحق المشروع في التقرير الحر للمصير وانتزاع الاستقلال الوطني المغتصب. فالمُحتل الإسرائيلي، كأي مُحتل، والمقاوم الفلسطيني، كأي مقاوم، طرفا صراعٍ تحكم علاقتهما "المعادلة الصفرية": كلما زادت إنجازات طرف قلَّت انجازات الثاني، لأن الزائد في نجاحات أحدهما هو ناقص في نجاحات الآخر، والعكس صحيح. وقياس الأمور بغير هذه القاعدة، لا يعدو توهاناً ذاتياً وفقداناً للبوصلة والصواب.

موضوعية القاعدة السابقة فرضت بداهة حساب انجازات الفصائل الفلسطينية وفقها، وليس وفق أي معيار آخر. وهذا ما كان في المسيرة الفلسطينية عموما، ومنذ اواسط القرن المنصرم خصوصا، أقصد منذ تبلور الكيانية السياسية الفلسطينية في اطار منظمة التحرير الفلسطينية.

ظل الحال الفلسطيني على هذا النحو، حتى نشوء السلطة الفلسطينية الانتقالية عام 1994. هنا بدأت البوصلة الفلسطينية بالتشوش، حين بدأت وتيرة التنازع الداخلي على السلطة بالإرتفاع التدريجي شيئاً فشيئاً، إلى أن وقعت كارثة تغييب حقيقة أن تناقض الفلسطينيين الرئيسي ما زال مع المحتلين، برغم تشكيلهم لسلطة وطنية انتقالية، يقر الجميع بلا استثناء أنها دون الاستقلال الوطني، لكن يبدو أن عوامل شهوة السلطة وتفضيل الذات على الموضوع، وترجيح "الحُكْم" على الوطن، والاختلال الحاد في ميزان القوى لصالح الاحتلال، وشدة عجز الشرط القومي وتفككه، وبالتالي انسداد افق الانتزاع السريع للاستقلال الوطني، قادت فيما قادت إلى سقوط غالبية النخب القيادية الفلسطينية في فخ تغييب حقيقة أن مهمة مقاومة الاحتلال والتخلص منه ما زالت الحلقة المركزية في حياة الفلسطينيين، هذا رغم أن الكل "يخطب" على الكل بها، بينما يجري تجاهلها على مدار الساعة في الممارسة، بعد أن هيمن التناقض الداخلي وتداعياته على الوعي القيادي الفلسطيني وممارساته.

بهذه النتيجة المرة، وخاصة منذ الانتخابات التشريعية الأخيرة في كانون ثاني 2006، دخل الفلسطينيون منعطفا خطيراً في حياتهم، ولم يعد غريباً تراجع مقاومة الاحتلال كمقياس أساسي لإنجاز الأطراف الفلسطينية، بل قد حل أن يقيس كل طرف فلسطيني إنجازاته بناء على إنجازات طرف فلسطيني آخر، فيما يقف الجميع عاجزاً أمام إحراز تقدم ملموس على صعيد المهمة المركزية كما يمليها واقع الاحتلال وضرورة التخلص مِنه.

شكل ما تقدم، وخاصة بعد الدخول في أتون اقتتال داخلي، بلغ ذروته فيما أقدمت عليه "حماس" مِن حسم عسكري لازدواجية السلطة في غزة، مقدمة طبيعية للسقوط في تيه تفسير الأطراف الفلسطينية للمواقف الإسرائيلية في مظهرها، أي كما لو كانت تدعم طرفاً فلسطينياً على آخر، ما افضى إلى تجاهل جوهر الممارسات الإسرائيلية الجارية على الأرض دون توقف، والساعية بدأب ومثابرة في ظل عجز رسمي عربي ودعم دولي، امريكي أساساً، لتصفية القضية الفلسطينية، بمعزل عن اللون السياسي للطرف الذي يتحدث باسمها. وهو الأمر الذي لا جديد فيه سوى اختلاف الاسم فيما جرى طرحه مِن مشاريع للتصفية، وذلك منذ "النكبة" وحتى يوم الناس هذا، بل منذ قيادة الحاج أمين الحسيني، مرورا بالشقيري، تعريجا على ياسر عرفات، وانتهاء بالقائم هذه الأيام مِن شرخ وطني غير مسبوق.

والأنكى أنه لا يوجد في الأفق مساعٍ عربية أو فلسطينية جادة، تبشر بوقف التدهور الجاري في الساحة الفلسطينية، ما يعني أن حالة التيه الفلسطيني تسير نحو المجهول، ولا يوجد ما يشي بوضع حدٍ لها، أما لماذا؟!! فلأن التقدم في المداخل الخاطئة لا يمكن أن يكون إلا تقهقرا. وبالتالي فإن دخول الفلسطينيين، كشعب يرزح تحت الاحتلال، مِن بوابة غير بوابة: أن التناقض الرئيسي ما زال مع المحتلين، قاد (بالضرورة) إلى تحوُّلِ تقدمهم إلى تقهقر، ولن يقود إلا إلى تفاقم ما هم فيه هذه الأيام مِن تيه، بلغ درجة "قسمة الوطن"، واعطاء عدوهم فرصة اللعب على تعارضاتهم الداخلية التي طالما نجحوا في ضبطها، وما زال يجب ضبطها لصالح تناقضهم الرئيسي مع الاحتلال كحلقة مركزية في حياتهم، منذ جرى ابتلاع ارضهم واقتلاع ما يربو على نصفهم منها.

والحال؛ فإن الفلسطينيين، وغالبية نخبهم القيادية على وجه الدقة، إنما ما زالوا يعيشون تيه الدخول مِن المدخل الخاطيء، تماما كما ورد في حكاية شعبية، لا أجد غضاضة في إعادة التذكير بها، تقول:

فوجئ زوجان يحملان بعض أمتعتهما، بانقطاع التيار الكهربائي عن حيِّهما وبالتالي عن مصعد عمارة شقتهما، وطرحا سؤال: ما العمل؟؟. اقترح الزوج أن يذهبا إلى كوخ والديه. رفضت الزوجة، واقترحت أن يذهبا إلى بيت أهلها. رفض الزوج، وعرض أن يتجولا في الحافلة حتى عودة التيار الكهربائي لحيِّهما. رفضت الزوجة اقتراح الشتات هذا خاصة وأنها حامل، وعرضت أن يجلسا عند "بَوَّاب" العمارة وينتظرا عودة التيار الكهربائي.

بعد أخذٍ ورد، اتفقا على أن يصعدا درج العمارة المكونة مِن ثمانية عشر طابقا، برغم ما في الأمر مِن تعب. وصَعَدا طابقا إثر طابق. نظر الزوج "حوله" لأول مرة منذ باشرا الصعود، وعرف أين هما الآن، وقال لزوجته: لدي خبران، أحدهما جيد والآخر سيء، فبأيِّهما أبدأ؟؟ قالت: بالجيد طبعا!!! فقال: الجيد أننا وصلنا الطابق السابع عشر. فرحت الزوجة، ولكن الزوج فاجأها بالقول: أما الخبر السيء فهو أننا أخطأنا في المدخل!!! دخلنا في المدخل الخطأ". وراح الزوجان يرددان: "إذا دخلت في المدخل الخطأ، يكون "تقدمك" تقهقراً".