مجرّد كلام في كـلام!../ أنطوان شلحت
لا بُدّ من القول إنه حتى المحللين السياسيين الإسرائيليين يرفضون، في معظمهم، الفرضية القائلة إن هناك تناقضًا صارخًا بين تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته، أفيغدور ليبرمان، بشأن "مستقبل العملية السياسية الإسرائيلية- الفلسطينية". وفي رأي البعض فإن هذا التناقض انعكس، في الآونة الأخيرة، في سلسلة من المقامات منها اجتماع لسفراء إسرائيل في العالم عقد مؤخرًا في مقرّ وزارة الخارجية في القدس.
ففي هذا الاجتماع قال نتنياهو إن الظروف "باتت ناضجة لاستئناف المفاوضات"، في حين قال ليبرمان أمام السفراء الإسرائيليين أنفسهم إن "إسرائيل لن تتوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في غضون العقدين المقبلين. وحتى لو انسحبنا إلى حدود 1967 وتنازلنا عن أجزاء من القدس (الشرقية) فإننا لن ننهي الصراع بين الجانبين".
ووفقًا لما يقوله المحلل السياسي لصحيفة هآرتس، ألـوف بـن، فإن في مجرّد واقع كون نتنياهو هو الزعيم الإسرائيلي الأعلى سلطة ما يفسّر هذا "التناقض"، لكن مع ذلك فإن الحقيقة الأعمق تبقى أن نتنياهو لا يؤمن بالاتفاق مع الفلسطينيين أكثر من ليبرمان، إلا أنه يدرك، مثل أسلافه من رؤساء الحكومة في إسرائيل، أن مصير الدولة مرهون بـ "قوتها وشرعيتها"، كما قال دافيد بن غوريون.
وفي الأعوام الأخيرة فإن قوة إسرائيل قد وهنت بسبب تعاظم قوة إيران، كما أن شرعيتها تعرضت للتقويض بسبب عملية "الرصاص المصبوب" العسكرية [في غزة] وبسبب موضوع المستوطنات في الضفة الغربية، ولذا فهي بحاجة ماسة إلى المزيد من الاعتراف والدعم، وهذا يوجب إرضاء العالم والتقدّم تدريجيًا في عملية السلام، بدلاً من استفزاز الغوييم [الأغيار] بصورة لا لزوم لها. بكلمات أخرى فإن نتنياهو مضطر لأن يتظاهر بسعيه إلى الاتفاق، متوخيًا أن يسعفه مجرّد ذلك في رمي الكرة إلى الملعب الفلسطيني والملعب العربي.
وكان أحد الأساتذة الأكاديميين الإسرائيليين [البروفسور إيلي بوديـه] قد سبق أن لاحظ أنه منذ العام 2000 فإن "حكومات باراك وشارون ونتنياهو" انهمكت بالحديث عن السلام أكثر من الانشغال بالتقدّم الحقيقي نحوه، مبينًا أن هذا المسلك ينطوي على مزايا عديدة، إذ أنه من الناحية النفسية يمنح القادة السياسيين، وربما المواطنين أيضًا، شعورًا بأن إسرائيل معنية فعلاً بالسلام بينما الجانب الآخر يتحدث عنه فقط، ومن الناحية السياسية فإن هذه المقاربة لا تكلف أصحابها أي أثمـان باهظة.
ورأى أستاذ أكاديمي آخر [البروفسور زكي شالوم] أن حكومة نتنياهو تعمل على أساس فرضية عامة فحواها أن الزمان لا يعمل في غير مصلحة إسرائيل، ولذا فإن عدم التوصل إلى اتفاق يعني تجنب أي انسحاب إسرائيلي من الضفة الغربية والامتناع من القيام بأي عملية تفكيك للمستوطنات، ومن شأن ذلك أن يضمن سلامة الائتلاف الحكومي ربما حتى آخر يوم من ولاية الحكومة الحالية القانونية.
إزاء هذه التقويمات ليس من المبالغة اعتبار الخطاب، الذي تلجأ وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى التسلح به في هذا الشأن، منسجمًا مع نهج رئيس الحكومة الإسرائيلية، ولا يعتبر نقيضًا له على الإطلاق.
أكثر من ذلك، فقد عاد الحديث مؤخرًا على أن قادة إسرائيل الحاليين، وعلى رأسهم نتنياهو ووزير الدفاع ورئيس حزب العمل، إيهود باراك، وكذلك رئيسة حزب كاديما، تسيبي ليفني، يفتقرون إلى جدول أعمال محدّد فيما يتعلق بدفع العملية السياسية، علمًا أن في الإمكان اعتبار استمرار المراوحة في المكان بمثابة جدول أعمال. وليس هذا وحسب، وإنما يقومون أيضًا بتضليل الجمهور الإسرائيلي العريض.
فمثلاً رأى كبير المعلقين في هآرتس، يوئيل ماركوس، أن نتنياهو وباراك، اللذين يراوحان في مكانهما، هما من ناحية المسلك أقرب إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إسحاق شامير، لكن ثمة فارق كبير هو أن هذا الأخير كان يملك جدول أعمال محددًا، فحواه أن يترك لخلفائه الدولة نفسها، التي تسلم إدارة دفتها، أي من دون التنازل حتى عن شبر واحد من مناطق "أرض إسرائيل الكاملة" على جانبي الخط الأخضر.
وفي مقابل هذا، لم يتضح حتى الآن ما إذا كان خطاب نتنياهو في جامعة بار إيلان، الذي تضمن قبولاً لـ "حل الدولتين"، هو مجرّد مناورة، أم أنه كان يقصد ذلك بصورة جادة.
ووفقًا لهذا المعلق، يمكن القول إن هذا الخطاب أثار انطباعًا حسنًا لدى الأميركيين لكن ليس لدى الفلسطينيين، الذين طالبوا أيضًا بتجميد البناء في المستوطنات. وفعلاً فإن طاقم الوزراء السبعة أقرّ تجميد البناء لمدة عشرة أشهر، وعندما رأى نتنياهو أن حزبه يوشك أن ينتفض عليه جراء هذا القرار فإنه أكد "عشرة أشهر فقط، من دون أي يوم آخر"، في حين أن الوزير بيني بيغن أعلن أن هذا "ليس تجميدًا مطلقًا"، وأنه خلال الأشهر العشرة المقبلة ستقام 3000 وحدة سكنية جديدة في الضفة الغربية لاستيعاب عشرات آلاف المستوطنين الجدد.
وفي معرض إجمال هذه الحالة الإسرائيلية العامة كشف المعلق السياسي في صحيفة معاريف، عوفر شيلح، أنه لدى استمزاج أي من زعماء إسرائيل الحاليين، في الوقت الحالي، عن سرّ الكلام المتواتر عن السلام في الظاهر، فإنه سرعان ما يؤكد أن الحديث يدور على تكتيك لا أكثر، وذلك لأنه "يجب صيانة العملية السياسية" و"لا بُدّ من بث بعض الأمل"، وأساسًا لأنه يجب الظهور بمظهر جيد أمام واشنطن.
ولا شك في أن هذه الحالة مرشحة لأن تستمر، ولعل ما يدعم هذا التكهن هو، أولاً وقبل أي شيء، انعدام أي ضغوط سياسية إسرائيلية داخلية ذات ثقل خاص، وانحسار الضغوط الخارجية من الأطراف المؤثرة على إسرائيل. صحيح أن هذه الأخيرة واجهت مؤخرًا ضغوطًا دولية مرتبطة بممارساتها العسكرية خلال الحرب على غزة، في أعقاب تقرير "لجنة غولدستون" الأممية، وصل بعضها إلى حدّ الأزمة الدبلوماسية، كما هي الحال مع تركيا، غير أن هذه الضغوط لا تزال متنائية عن المستوى الذي ربما يضطرها إلى السير في سكة سياسية غير مألوفة، مقارنة بالسكة التي سلكتها حتى الآن ولم ترزح خلالها تحت وطأة أي التزامات.
علاوة على ذلك فإن الوضع الفلسطيني الداخلي لم يعد، منذ مدة، عاملاً يستدرّ مثل هذه الضغوط. كما أنَّ متابعة ردّات الفعل الإسرائيلية على المستجدات الأخيرة في غزة، من شأنها أن تجعل المرء يستنتج بأن الخلاصة، التي جرى التوصل إليها، هي المزيد من تمسك إسرائيل بسياستها الأمنية، التي كانت ولا تزال بمثابة "ذريعة منمقة" لفرض القيود على العملية السياسية، المكبلة أصلاً بأصفاد ثقيلة.