في العام 1976 كان حزب العمّال الإسرائيلي يقود الدولة العبرية بدون منازع، هذا الحزب، الذي يبعد ألف سنة ضوئية على الأقّل عن العمال وحقوقهم، يتفاخر ويتباهي بأنّه الحزب الذي وضع الأسس الأيديولوجية للعنصرية الإسرائيلية، التي باتت ماركة مسجّلة في دولة الاحتلال. ففي شهر نيسان (أبريل) من ذاك العام تمّ الكشف عن وثيقة المأفون يسرائيل كنيغ، التي عكف على إعدادها بطلب من الحكومة العمّالية "اليسارية"!.

ومذكرة كنيغ هي مذكرة سرية داخلية صدرت عن الحكومة الإسرائيلية ممهورة بتوقيع متصرف لواء الشمال في وزارة الداخلية الإسرائيلية في حينها، كينغ، الذي كان بحقٍ وحقيقةٍ ملكاً على الأغلبية من الفلسطينيين في الداخل.

الوثيقة عكست عملياً الأفكار الصهيونية الخطيرة المبنية على نفي الآخر، وقدّمت لصنّاع القرار في تل أبيب جملة من الأهداف الإستراتيجية والخطوات التكتيكية والتي تهدف إلى تقليل نفوذ المواطنين العرب الفلسطينيين في منطقة الجليل.

العنصرية، وتبرز في هذه الوثيقة بأفظع تجلياتها، والفاشي ليبرمان، الذي كان ما زال يعيش في روسيا، يستطيع بصعوبةٍ بالغةٍ أن يدخل إلى مدرسة العنصرية، بإدارة كينغ، لأنّ هذا الأخير كان يخطط بواسطة دراسة معمقة وجوهرية وإلمام واسع، فيما ليبرمان، يُطلق تصريحاته العدائية من منطلق الشعور الغرائزي لديه الذي يُحتّم عليه كره العرب.

المحور الأهم في هذه المذكرة يتلخص في تشديد متصرف لواء الشمال على الحاجة لفحص إمكانية لإضعاف التركيز العربي الحالي، كما رأى أنّ هذه الإمكانية هي أمر مهم لديمومة المصالح اليهودية الوطنية. مضافاً إلى ذلك، تبرز أهمية هذه المذكرة لكونها المذكرة الأولى التي تعرض سياسات التفرقة والعنصرية المطبقة على الفلسطينيين منذ سنة 1948، وحيث تعكس التخطيط الذي يتم تنفيذه في مراكز صنع القرار في الدولة اليهودية، التي تقوم بتكريس فوقيتها على أصحاب الأرض الأصلانيين. وما يدعو له ليبرمان اليوم ليس أكثر من تطبيق لمخطط صهيوني حاضر دائماً، وفي كل مرحلة، فوثيقة (يسرائيل كينغ) تحمل تفاصيل واقتراحات عنصرية وفاشية بامتياز لا يُضاهى.

ويبدو أن فتح الأدراج لإخراج الملفات أمر يرافق الأزمات التي تواجه المشروع الإسرائيلي، ولكنها لن تفعل كما هو واضح سوى خلق المزيد منها بدلاً من حلها. فالأزمة الجذرية تتعلق بكامل الأيديولوجية التي قامت عليها الدولة، والمؤسسات التي بُنيت بموجبها. فمذكرة كينغ تناقش مسألة الخطر الديمغرافي الذي يحيط بالدولة العبرية، ومن الممكن تلخيص أهم الأهداف الإستراتيجية لهذه المذكرة في النقاط الثلاث الرئيسية: أولاً: الحيلولة دون أي احتمال لتكوين وحدة سياسية عربية مستقلة في الداخل الفلسطيني، حيث اقترحت المذكرة بناء المزيد من المستوطنات في المناطق ذات الأكثرية العربية. ثانياً: رأى هذا الفاشي الصغير أنّ هناك حاجة ملحة لتبديل الزعماء العرب العدائيين بآخرين أكثر طواعية، ومهمة خلق وإيجاد (العرب الجدد والصالحين) هي مهمة منوطة بالحكومة الإسرائيلية، علاوة على ذلك، أوصى كينغ حكومة إسرائيل بالعمل على تقليل عدد العرب المثقفين وتحويلهم إلى دراسات تقنية ومهنية.

واستطرد هذا المأفون بتوصياته الفاشية حيث أراد أن تكون سهولة دراسة العربي خارج البلاد أكبر وصعوبة حصوله على عمل في الداخل أكبر. ثالثاً: اقترح متصرف لواء الشمال القيام بحملات لتشويه سمعة العرب الناشطين سياسياً، وبهدف تقليل الادخار لدى الجانب الفلسطيني، اقترح تحديد وتقليل التمويل المتوفر في المجتمع العربي، والذي وفق رؤيته العدائية، يتم استغلاله لأهداف سياسية.

اليوم بعد مرور 33 عاماً على نشر وثيقة كينغ العنصرية، وفي ظل استفحال العنصرية الإسرائيلية نرى من الواجب أن نسأل أنفسنا، قادةً وجماهير: هل فعلنا بما فيه الكفاية لدرء هذا الخطر المحدق بنا؟ هل ارتقينا إلى مستوى الحدث؟ أم أننّا ما زلنا نُطلق الشعارات الرنانّة والحكومة المتطرفة بقيادة نتنياهو- باراك- ليبرمان، تواصل السير على درب الخطوط العريضة وغير العريضة التي وضعها كينغ؟ هل النضالات التي نخوضها من أجل المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني حققت شيئاً، أم أننّا ما زلنا في مكانك سر، أو خلفاً در؟ هل المظاهرات والنشاطات الاحتجاجية ضد سياسة الحكومة الإسرائيلية الحالية، والتي سبقتها، والتي سبقت سابقتها وهكذا دواليك، عادت علينا سلباً أم إيجاباً، أم أنّها كانت وما زالت عقيمة، لا تضر ولا تنفع؟ هل آن الأوان لتغيير الإستراتيجية والتكتيك من أجل الحفاظ على سيرورتنا وبقائنا هنا في أرضنا ووطننا؟ ألا تعتقدون، يا أبناء جلدتي الأعزاء، أنّ قطار العنصرية يدوس على الأخضر واليابس، ونحن ما زلنا متلكئين؟ هل الأدوات النضالية الحالية باتت غير مجدية ويجب العمل بعلمية ومنطقية على إيجاد الآليات العصرية لمواجهة التحديات الجسام التي تفرضها علينا هذه الحكومة العنصرية، حكومة علي بابا والثلاثين وزيراً؟

الحقيقة المرّة التي لا يُمكن تجاهلها أن العنصرية الإسرائيلية باتت القاعدة وليس الاستثناء، أصبحت علانية ومدعومة من الحكومة، وأمست القوانين العنصرية تُسن في البرلمان الصهيوني دون خجل أو وجل، ونحن، أبناء الأقلية القومية العربية في هذه الديار، وعلى الرغم من استيعابنا للمخططات المبيتة لدى الحكومة، ما زلنا في موقع المتلقي، ونمتنع لأسباب لا يمكن عدّها، من أن نأخذ زمام المبادرة والانتقال من مرحلة رد الفعل إلى الفعل بالمستوى المطلوب، وهنا باعتقادنا تكمن المشكلة التي يتحتم علينا أن نواجهها بموضوعية وبعيداً عن المهاترات والمزايدات، لأننّا، كما يقول مثلنا الشعبي: كلنا في الهوى سوا.

وعليه، من أجل وضع النقاط على الحروف، يجب الآن، البدء في الإعداد لمؤتمر الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل، وهو المؤتمر الذي منع رئيس الحكومة الأسبق، مناحيم بيغن، في العام 1980 عقده في مدينة الناصرة في حزيران (يونيو) من العام 1980 لأسباب "أمنية"!. اليوم، أكثر من أي وقت مضى نحن بحاجة إلى شحذ الهمم من مختلف التيارات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني في مناطق الـ48 لترتيب هذا المؤتمر تحت مظلة لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في الداخل.

ولكي لا نرتكب أخطاء الماضي ونمنح السلطات والمخابرات الذرائع لمنع انعقاد المؤتمر على اللجنة التحضيرية دراسة الجانب القانوني لهذا المؤتمر، الذي يجب أن يشكل انعطافة تاريخية في علاقتنا بالدولة العبرية، لأنّ الخوف اليوم لدينا هو من قيام إسرائيل بعملية طرد جماعي للفلسطينيين في إسرائيل، وليكف "البراغماتيون" عن الزعم بأنّ هذا الترحيل القسري غير قابل للتنفيذ في أيامنا، لأننّا نؤمن إيماناً مطلقاً بأنّ إصرار نتنياهو، الذي يرى بنا، كما كتب كنيغ، قنبلة ديمغرافية موقوتة، على تحويل الدولة العبرية إلى دولة يهودية، نفهمه بأنّه يريد تنقيتها من العرب، ونتنياهو والأحزاب التي تدور في فلكه، وصلت إلى سدة الحكم عن طريق الإسرائيليين، الذين أدلوا بأصواتهم لهذه الأحزاب اليمينية والمتطرفة.

ولا ضير في هذه العجّالة أن نطرح أو نقترح دراسة إعلان العصيان المدني السلمي ضد سياسة الحكومة العنصرية ضد فلسطينيي الداخل، هذا طبعاً بعد دراسة الأبعاد القانونية لمثل هذه الخطوة التي مارسها العديد من الشعوب في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وأسيا، ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ من استعمل مصطلح العصيان المدني هو الكاتب الأمريكي هنري ديفر ثوراو في مقالته المعروفة العصيان المدني المنشورة في سنة 1849، بعد أن امتنع عن دفع ضرائب الحرب احتجاجا على العبودية والقمع والاضطهاد والتي استعملتها الولايات المتحدة في حربها ضد المكسيك.

لم يكن الامتناع عن دفع الضرائب بالفكرة الجديدة وإنّما استعملها مناهضو الاسترقاق وآخرون، وكذلك استعملها كارل ماركس حين حاول أن ينظم حملة لإقناع الأوروبي بعدم دفع الضرائب خلال الثورة في أوروبا عام 1848. وبإمكاننا مثلاً، في شهر أيار (مايو) القادم أن نرفع الأعلام السوداء على بيوتنا وسياراتنا ومؤسساتنا في ذكرى النكبة التي حلّت بشعبنا، وفي يوم النكبة، وتحدياً للقانون الذي يمنعنا من إحياء ذكراها، يمكننا تحويل الداخل الفلسطيني إلى حالك عن طريق عدم استعمال الكهرباء، وأيضاً، ما المانع بمطالبة مبعوث أوباما إلى منطقة الشرق الأوسط، بالاجتماع معه، لإطلاعه على أنّ نتنياهو لا يريد السلام ليس فقط مع الفلسطينيين في الضفة والقطاع، إنّما مع الفلسطينيين، أصحاب الأرض، ويقود دولته من حيث يدري إلى دولة أبرتهايد.