نرفض أن يحدد لنا الشاباك حدود "الشرعية" السياسية../ حنين زعبي
اعتمد المشروع الصهيوني ليس فقط على إحلال شعب مكان أخر، بل على إحلال إنسان مكان نفسه، أي أنه لم يبن فقط على أنقاض الشعب الفلسطيني بتهجيره، بل على هدم الشخصية الفلسطينية التي بقيت، وعلى تحديد ملامح شخصية أخرى.
عملية "بناء الإنسان" أو إعادة هندسته، هي حجر أساس في كل مشروع يريد أن يبني قطيعة مع ما سبقه، والمشروع الصهيوني هو مشروع قطيعة بامتياز، ليس قطيعة فلسطينية فقط، بل أيضا قطيعة "يهودية". وهو لهذا، يحتاج للعديد من المخططات وعلى كافة المستويات لهندسة نموذج "العربي-الإسرائيلي"، فهو يحتاج لمخطط في التعليم، ولمخططات تدجين الشباب (آخرها الخدمة المدنية)، ولمخططات ملاحقة للقيادات، ولمخططات استيعاب مدروس للعرب في الوظائف الحكومية والرسمية، ولمخططات في دعم رؤساء سلطات محلية معينة، ولمخططات تحريض في الإعلام العبري والعربي، وهنالك من هو مستعد للتعاون دائما.
ما يهمنا الآن في مسألة الملاحقات، هي أنها إحدى عمليات "الهندسة" هذه، والمتعلقة بهندسة العمل السياسي للعرب ورسم حدوده، لكن ليس ذلك فقط، بل هي تعيد رسم شخصية العربي الحامل لهذه الحدود، إذ أن "الحركات" السياسية العربية (وبعضها تيارات مركزية) تقوم طوعا بعرض نموذج بديل، إذ تعرض نفسها كحاملة وكممثلة لنموذج مقبول إسرائيليا. ولكي تفعل هذا فهي تحتاج ليس فقط إلى قبول حدود اللعبة السياسية، بل هي تحتاج أيضا إلى انتهازية سياسية، تقبل بها ضرب نموذج وطني، كما وتحتاج إلى نفاق سياسي، تقوم به بـ"الدفاع" المصطنع والخجل وغير الصادق مع الملاحقين.
قضية عمر وأمير، هي قضية سياسية وليست بتاتا أمنية أو قانونية، وذلك لسببين، الأول: هو أن السؤال المطروح هو ليس فيما إذا ما قام به عمر السعيد أو أمير مخول قانوني أو غير قانوني، بل السؤال هو: هل سيعرّف الشاباك أن ما قام به أمير مخول وعمر سعيد هو "خطير" سياسيا أو غير "خطير" سياسيا. بعدها تأتي المرحلة الثانية، وهي المرحلة "القانونية"، والتي فيها تحدد المحكمة أن كل ما هو خطير سياسيا بمفهوم الشاباك هو غير قانوني، وكل ما هو ليس "خطيرا" سياسيا هو قانوني، الشاباك يحدد القانون، أي السياسة تحدد القانوني.
السبب الثاني: هو أنه ما كان الشاباك ليلاحق أمير وعمر، بهذه الطريقة، لو مثل نشاطهما عملا فرديا، غير معروفة حدوده على الملأ، عندها لقام الشاباك بتحذيرهما، بل ومنعهما من السفر، حيث لا تعطى لمن تعتبره "جاسوساً" حرية حركة تسمح له أن يشكل "خطرا" فعليا وعمليا على الدولة، ولانتهت القصة لمحاولة "جاسوسية" فردية لم تنجح.
نحن نعرف الآن أن الشاباك يتعقبهما منذ مدة. لكن الذي حصل، أن الشاباك تعقبهما وأعطاهما حرية الحركة فقط لأن نشاطهما الشرعي والطبيعي يمثل نمطا سياسيا واضحا تتضح هيمنته في الشارع العربي شيئا فشيئا، وفقط لضرب هذا النمط من العمل السياسي كرادع جماعي وليس كعقاب فردي، أي كعقاب سياسي وليس كعقاب قانوني.
بالتالي ليس صدفة أن يشترك الإعلام الإسرائيلي بهذا الاحتفال السياسي، وأن يشدد على المواقف السياسية لكل من عمر وأمير، وأن يضع التجمع كدفيئة وحاضنة لسقف سياسي جديد يعرفونه كـ"متطرف". وأن تبدأ اسرائيل عملية تجريم العمل السياسي هذا وإعطاءه أبعادا أمنية، بعملية ملاحقة عزمي بشارة أيضا، وضمن هذا المخطط السياسي فقط تندرج حملة التحريض على التجمع، ما الفائدة في ضرب عمر وأمير دون ضرب التجمع، الدفيئة والحاضن؟ لا شيء.
لكن، لن تكتمل عملية ضرب التجمع، دون توفير النموذج العربي البديل والمرضي عنه.
وزير الأمن الداخلي، وتصريحات إسرائيلية كثيرة تشير إلى رغبة في توفير هذا الموديل، وفي طرح البعض لأنفسهم أنهم "البديل" المقبول إسرائيليا. شخصية غير هامشية بتاتا، إن لم نقل العكس، قالت بشكل شخصي، سمع من البعض خلال مظاهرة حيفا، "أننا لا نقع في مثل هذه المطبات، لأننا نصر على النضال الشرعي". والنضال، حسب هذا الشخص، هو ما تسمح به المؤسسة الإسرائيلية.
ما تعكسه هذه الشخصية، هو ليس فقط القبول في رسم حدود عملنا السياسي، بل أيضا تبني النفسية والثقافة السياسية الضرورية لهذه المسايرة، وهي النفاق السياسي، فلا يكون تضامنها إلا خجلا من الشارع العربي، وهي الإنتهازية السياسية، فلا تعترف بمسؤولية وطنية، عن أن هنالك حركة سياسية بعينها ولها اسم هو التجمع، هي المستهدفة دون غيرها، بل وتحاول اكتساب مكانة سياسية إسرائيلية بعرض نفسها على أنها البديل "العقلاني".
ويعرض هذا النموذج البديل على أنه الحل الوسط بين ما تقبل به إسرائيل وما نقبل نحن به، لكن نقطة الوسط هذه، هي ليست "الاعتدال" بل هي بالضبط النقيض المطلق لكل ما يمثل عدالة قضيتنا ونضالنا.
إذ أن النضال لا يمت بصلة لعملية إيجاد حل وسط بينك وبين القامع، والنضال لا يمت بصلة لمفاوضات بينك وبين القامع حول النموذج المقبول، بل هو ليس سوى فرض شخصيتك الوطنية بكافة وضوحها وعدالة قضيتها.
قبولنا بأن يخضع عملنا السياسي لرضا المؤسسة الإسرائيلية، هو الخطير.