.......من سخريات القدر وفي ظل حالة عجز شاملة تلف الأنظمة والأحزاب والجماهير العربية، أن نرهن مصائرنا وحقوقنا للآخرين، ونجلس ننتظر وندعو كما هو حال المتصوفين، بأن "يدمر ويمحو الله إسرائيل وأمريكا" وغير ذلك من أدعية العاجزين، في انتظار ذهاب حكومة إسرائيلية وأخرى أمريكية ومجيء أخريات، وليبدأ الجهابذة عندنا من محللين سياسيين وكتاب وباحثين وغيرهم، بالتحليل والتفسير والتعليل بأن هذه حكومة يمينية وتلك يسارية، وهذه لها رؤيا تختلف عن السابقة وما إلى ذلك، ناسين أو متناسين أن كل تلك الحكومات بمختلف ألوان طيفها السياسي تختلف في الجزئيات والتفاصيل، وتتفق بما هو استراتيجي ولا تحيد عنه الحكومة القائمة مهما كان شكلها ولونها وبرنامجها.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، أعطوني حكومة إسرائيلية واحدة، اعترفت بالحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ولتذكير دعاة نهج المفاوضات والاعتدال العربي والفلسطيني، كل قادة إسرائيل ورؤساء حكوماتها المتعاقبين من ما يسمى بأقصى يسارهم حتى أقصى يمينهم "ليبرمان وايتام وغيرهم"، الجميع متفقون على مفاوضة الفلسطينيين دون تقديم أي تنازل ليس بالجوهري، بل ما يلبي الحد الأدنى من الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وهم لهم ثوابتهم الإستراتيجية، أما نحن فلا نملك إلا خيار الأدعية والتنازلات فمنذ عام 2002، قمة بيروت، ونحن نطرح ما يسمي بمبادرة السلام العربية، والتي تركلها وتدوسها إسرائيل سنة بعد سنة، وقمة بعد قمة، حتى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق "شارون" قال عنها بأنها لا تساوي قيمة الحبر الذي كتبت به، ورغم ذلك نرحلها من قمة إلى أخرى ونهبط في سقفها طمعاً وأملاً أن تتكرم إسرائيل وتوافق عليها. فعدا عن نصها المبهم حول حق اللاجئين في العودة وفق القرار ألأممي 194 كمرجعية كقانونية لهذا القرار، تجاهلنا وتخلينا عن ذلك في قمة الدوحة الأخيرة، وأعلنا أننا مصرون على عدم سحب تلك المبادرة من التداول، فحالنا وصل مرحلة "إكرام الميت دفنه".

وها هو زعيم حزب الليكود "نتينياهو" يأتي رئيساً لحكومة إسرائيلية مغرقة في التطرف والعنصرية، وفي خطاب التنصيب قال علناً وجهراً بأنه لا يلتزم ولا يعترف بأية اتفاقيات سابقة دون أن يخشى أو يحسب حساب مجتمع دولي ولا رباعية ولا غيرها.

وهو الذي عندما تولى رئاسة الوزراء عام 1996، أعلن عدم موافقته والتزامه باتفاقيات أوسلو، وعمل على فتح المتفق عليه، ولم ينقذ تلك الاتفاقيات، وقال بأنه لم يقدم أية تنازلات مجانية للفلسطينيين وبدون ثمن. أما نحن العرب والفلسطينيين فرغم أن نهج التفاوض لم يحقق أي شيء لا على مستوى الحقوق ولا حتى على مستوى تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين، بل وحتى إزالة حاجز عسكري أو إطلاق سراح أسير فلسطيني خارج التصنيفات والتقسيمات الإسرائيلية، فهناك من يصر على رؤية الأمور وفق قول المأثور الشعبي "عنزة ولو طارت"، ويصر في الحوار الوطني على برنامج حكومة تلتزم وتعترف بالاتفاقيات السابقة وشروط الرباعية، وكأن الطرف الآخر يلتزم بها بحذافيرها أو حتى يعترف بها أو يطبقها، وبدلاً من أن يعلن علناً وجهراً بأن هذا النهج والخيار لم يعد مجديا والاستمرار فيه ملهاة ومضيعة للوقت والحقوق، وأن يتجه ويذهب صوب الخيارات الأخرى، فالعالم مهما كانت حقوق شعبنا عادلة ومشروعة، فهو لا يحترم الضعفاء، فماذا نتوقع أو نترجى من الذين ليس فقط يساوون بين الضحية والجلاد بل ويلومون ويعاقبون الضحية لأنها تمردت على جلادها؟..

وللتذكير أيضاً فالذين وصفوا العدوان البربري على شعبنا في قطاع غزة بالحرب الدفاعية ورفضوا إدانة جرائمها ومجازرها بحق شعبنا الأعزل في القطاع في مجلس حقوق الإنسان، هم نفسهم الذين يصفون نضال شعبنا "بالإرهاب"، ولا يقلقون لكل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق شعبنا وكل أشكال وأنواع انتهاكات وخرقها للقوانين والمواثيق الدولية، وفي أحسن الأحوال، وخوفاً على غضب وزعل إسرائيل، يعدون تقارير سرية تحفظ في الأدراج والملفات..

والجميع يذكر بأن ما يسمى بمندوب الرباعية للسلام "توني بلير" كل ما كان يقلقه ليس ما ترتكبه إسرائيل من مجازر وجرائم بحق شعبنا، بل الصواريخ البدائية التي تسقط على"سديروت"، وكذلك حال رئيس الوزراء الفرنسي "ساركوزي" والذي يقلقه حتى الآن مصير "الحمل الوضيع" الجندي الإسرائيلي المأسور"جلعاد شاليط، أما مصير أحد عشر ألف أسير فلسطيني دخل العشرات منهم كتاب"دنيس" للأرقام القياسية في سجون الاحتلال الإسرائيلي، فهؤلاء لا يقلق ولا يهتم لهم لا "ساركوزي" ولا غيره من قادة "العهر" والمعايير المزدوجة الأوروبيين.

ومن هنا في ظل تشكل الحكومة الإسرائيلية المغرقة في التطرف واليمينية، وإعلانها الواضح بأنها لا ولن تلتزم بأية اتفاقيات وتعهدات سابقة، فعلى الفلسطينيين الذين يعاودون الحوار مرة أخرى في القاهرة، أن يدركوا تماماً بأن الوحدة أضحت ضرورة وليست خيارا، وحدة تضع مصالح الشعب الفلسطيني فوق أية مصالح وأجندات فئوية، وحدة أساسها وعمادها مصلحة وثقة الشعب أولاً وأخيراً، وحدة تلتزم بحقوق وثوابت شعبنا، وحدة تتطلع إلى أن الأساس هو لنيل الحقوق والتحرر من الاحتلال، وليس لفتات أمريكا وأوروبا ورفع الحصار وغيرها.

فالقادم على الشعب الفلسطيني والمشروع الوطني الفلسطيني خطير جداً، فنحن نشهد عمليات تطهير عرقي وتهجير قسري في القدس، حيث التهديدات الجدية بهدم وترحيل أحياء فلسطينية بالكامل، وعمليات الاستيطان في الضفة تتكثف وتتصاعد بشكل جنوني، والحصار على القطاع يشتد وطأة وقسوة، وعرب الداخل- مناطق 48- مطاردون في هويتهم وقوميتهم ووجودهم ومواطنتهم في أرض أبائهم وأجدادهم مربوطة ومشروطة بالولاء لدولة إسرائيل.

وهذا أول ما يتطلب فلسطينياً وحدة برنامج واستراتيجيه لمواجهة هذه التحديات الخطيرة، وليس حوارات ماراثونية وجدلا بيزنطيا، ومناكفات وعبارات القدح والذم والتكفير والتخوين المتواصلة، فشعبنا مل الانقسام والانفصال وتراجعت ثقته بالأحزاب والفصائل، وما يريده هو وحدة تقوي وتصلب جبهته الداخلية، وترفع من منسوب قدرته على الصمود والمواجهة. صحيح الوحدة ليست بأي ثمن، بل وحدة عناوينها ومفرداتها واضحة، وحدة تحظى بثقة شعبنا أولاً وتنال رضاه، وليس وحدة وحكومة يرضى عنها الغير وتلبي اشتراطاته، فما دام الطرف الآخر كما أصبحتم تسمونه لا يحترم ولا يلتزم بأية اتفاقيات فلماذا إصرار البعض فلسطينياً على الالتزام والاعتراف بها، والقول أن ما نريده هو اعتراف بالاتفاقيات السابقة أصفى من الكريستال؟.

فها هم قادة الحكومة الإسرائيلية علناً وجهراً وعلى رؤوس الأشهاد لا يلتزمون ولا يعترفون بالاتفاقيات السابقة، ولا تطالبهم أمريكا وأوروبا بذلك، وهم مشهود لهم بممارسة "الإرهاب" والتحريض المستمر على البحث عن أبشع الطرق والوسائل لقتل الفلسطينيين وطردهم من أرضهم ونفي وجودهم.