تحصل في المنطقة العربية تغيرات وتبدلات سرّعها وباء كورونا وما تبعه من أزمة اقتصادية عالمية وتحديدًا للدول النفطية، إذ صار يبدو كأن التحالف الإسرائيلي – الإماراتي – السعودي - السيسي متفردًا بالمنطقة كمحور وحيد يحمل أجندة هجومية، فيما المحور المفترض الموازي – الإيراني، يبدو أنه تراجع كثيرًا بل بات محاصرًا ومتآكلا، نتيجة الكارثة الإنسانية في إيران في أعقاب فيروس كورونا الذي تزامنت مع العقوبات الأميركية واغتيال القائد التنفيذي لمشروع إيران في المنطقة، الجنرال قاسم سليماني، في قصف أميركي في بغداد، وأخيرًا قرار روسيا كما يبدو على تحجيم دور إيران في سورية، وهي رغبة أميركية إسرائيلية أيضًا.

ومحور ثالث حاول أن يشق طريقه بين المحور السعودي – الإماراتي والمحور الإيراني، إن جازت تسميته "محور تركيا – قطر"، الذي بقي تأثيره محصورًا في قضايا ومناطق محددة، ولا يحمل مشاريع خاصة بالمنطقة وقدّم نفسه على أنه مناصر للربيع العربي.

والمحور الرابع الذي يجب أن يتشكل ويكبر، هو محور قوى التغيير والديمقراطية العربية، محور شعوب المنطقة، إذ بات التعويل شبه الوحيد عليه، اليوم، لمواجهة هجمة المحور الأول الذي يسعى لوأد التطلعات العربية بالحرية والديمقراطية، وتصفية الحقوق الفلسطينية وتصوير القضية الفلسطينية والفلسطينيين كأنهم عبء على الدول والشعوب العربية.

سورية

ما يحصل في سورية هذه الأيام، أي بحث روسيا عن صفقة مع الولايات المتحدة وتركيا ودول المحور الأول لاحقًا، بشأن مستقبل سورية وتحجيم الدور الإيراني فيها، يهدف لإنتاج نظام يكون مقبولا محليًا ودوليًا، وبشار الأسد ليس كذلك بالطبع، من أجل تجنيد أموال إعادة إعمار سورية من دول الخليج ودول أخرى عبر البوابة الأميركية، لصرف عقود الاستثمار التي وقعها الروس في سورية، وعدم تورط موسكو في حرب لا طائلة لها منها. فدخولها للحرب السورية لم يكن حبًا ببشار الأسد أو طهران، وإنما لأهداف روسية خالصة لا تنتهي عند سواحل اللاذقية المطلة على البحر المتوسط. يبدو أن روسيا بوتين تبنت النموذج الأميركي لجهة تحويل الحروب إلى فرص لعقود استثمار طويلة الأمد في البلدات التي تتواجد فيها عسكريًا. هذا ما فعله الأميركيون في العراق، وهذا ما يسعى إليه بوتين في سورية، لكن مع فرق هام، وهو عدم التورط عسكريًا وخوض حروب مثلما حدث مع الأميركيين في العراق.

التحالف الصهيوني و"أم هارون"

ما يحصل من تطور في العلاقات بين إسرائيل والسعودية، ليس مجرد خروج للعلاقات إلى العلن، أو تطبيع بالعلن، بل إن الأمر تعدى ذلك لدرجة التحالف مع إسرائيل في العلن، وتبني شبه كامل للإستراتيجية الإسرائيلية في المنطقة، سياسيًا وعسكريًا وتاريخيًا، وظهر ذلك واضحًا في دعم هذه الدول العربية لما يسمى "صفقة القرن" والتحريض على الفلسطينيين بالعلن، وما سبقه من "مؤتمر البحرين" الذي دعا إليه جاريد كوشنير بمشاركة إسرائيلية ومقاطعة فلسطينية، لـ"حلب أموال" تلك الدول لإنهاء الملف الفلسطيني.

وحتى هذه النقطة ظننا أن "الفجور وصل ذروته"، لكن الأمر الأخطر قد جاء لاحقًا، على شاكلة مسلسلات رمضانية "بريئة" تعرضها قناة فضائية سعودية، والعمل الرمضاني الأخطر، هو ما يسمى مسلسل "أم هارون". فللوهلة الأولى يبدو أنه مسلسل يدعو لتعايش الديانات، لكنه في واقع الأمر يبدو كأنه بند في "صفقة القرن"، الذي يقايض حقوق اللاجئين الفلسطينيين بما أطلق عليهم اللاجئين اليهود من الدول العربية. أي "واحدة بواحدة". والخطير بالأمر، وربما باستشارة إسرائيلية كوشنيرية، أن هذه المقايضة صيغت بلغة شعبية وعبر قناة ترفيهية في "شهر المسلسلات" ليتسلل إلى الوعي الشعبي الخليجي والعربي.

وأمر آخر خطير، أن المسلسل يتبنى لغة "صفقة كوشنر"، التي ترى الصراع بالمنطقة على أنه صراع ديني في أساسه، وتحرّف التوراه من أجل إثبات أحقية اليهود في البلاد. بتنا نشتاق للمسلسلات المصرية عن "بطولات" المخابرات المصرية ضد إسرائيل التي أنتجت في الثمانينيات وبعد السلام مع إسرائيل. لكن أي بطولات ضد إسرائيل ستنتج المخابرات السعودية أو الإماراتية، أو البحرينية؟

"أم هارون" الحقيقية، أي الممثلة حياة الفهد، معروفة بعنصريتها حتى ضد من هم من قوميتها، فهي دعت إلى رمي المصريين المصابين بفيروس كورونا في صحراء بلادها الكويت، وفي الوقت نفسه تقدّم نفسها على أنها متسامحة وداعية لتعايش الأديان.

هذا التحالف الصهيوني ليس قائمًا على التعايش أبدًا، بل هو تحالف قتل وتخريب وضد الشعوب العربية وضد حريتها. وقد تكون دوافع هذا التحالف هو مواجهة إيران في المنطقة، لكن هذا الهدف المرحلي، لكنه في الحقيقة تحالف لمواجهة شعوب المنطقة وهوية المنطقة. فالربيع العربي هزّ أركان الأنظمة العربية وأدخل إسرائيل في حالة ضبابية باتت لا تستطيع فيها تحديد وجهة المستقبل الذي ظننا للوهلة الأولى بأنها ستحدد وفق إرادة الشعوب بعد الربيع العربي. ومنذ اليوم الأول، وفي ذلك استبقت إسرائيل، تحركت الإمارات ولاحقا السعودية لضرب أي تجربة ديمقراطية عربية، بدءًا بتونس مرورًا بمصر. هل تذكرون ثورة اليمن؟ لقد تكالبت عليها السعودية وإيران حتى وأدتها وحولتها إلى حرب طاحنة، تمامًا مثلما حصل في سورية.

إذًا، يبدو أن المحور الأول أو التحالف الصهيوني باتت محطته القادمة فلسطين، بعد أن دمر اليمن وليبيا وسورية، إذ حيث تلتقي السعودية بإيران تتحول الانتفاضات الشعبية إلى مأساة إنسانية، مثل اليمن وسورية والعراق لاحقًا إلى حد ما، ونأمل ألا يحصل ذلك في لبنان، والسودان نجا حاليًا من ذلك لأن لا يوجد لإيران نفوذ جدي هناك ليصطدم بذلك التحالف.

المعركة الأساسية ستكون في فلسطين، وهي لن تكون حربًا أهلية بالضرورة كما حصل في سورية أو اليمن، لأن إسرائيل لن تقبل حربًا أهلية في خاصرتها وهي ضد ما تسميه "الانفلات الأمني"، وليس لدى أي طرف فلسطيني وطني مصلحة في حرب كهذه، ولكن تصفية الحقوق الفلسطينية وتزوير التاريخ سيكون نصب أعينها. سنشاهد أكثر من "أم هارون".

من يواجه؟

عدا عن تراجع المحور الإيراني واستنزاف قدراته كما يظهر في الوقت الحالي، فإن هذا المحور يواجه مشكلة حقيقية لا تمكنه من الحصول على شعبية وشرعية من الشعوب العربية، لسببين أساسيين: هو محور مذهبي في خطابه وممارساته، لذا لن يقترب أصلا من الإجماع الشعبي العربي؛ ثانيًا هو يعادي تطلعات الشعوب العربية بالحرية. كذلك تركيا وقطر ليس بمقدورهما لوحدهما مواجهة هذه الهجمة. فتركيا همها الآن ضمان مصالحها في أي تسوية قادمة في سورية، تحديدًا بما يخص الأكراد.

لذا ختامًا، لا بد من تحديد ثلاثة أمور أساسية يسعى إليها التحالف الصهيوني: القضاء على فرص الديمقراطية في المنطقة، تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، وضرب الهوية القومية العربية للمنطقة وتحويلها إلى طوائف ومذاهب والصراع القومي مع إسرائيل إلى صراع على تعايش الديانات. مهمة مواجهة هذه التحديات، مسؤولية من وكيف ولماذا... في مقال لاحق.