تتوالى التعليقات على الأنباء حول نية القائد الفتحاوي والأسير الفلسطيني، مروان البرغوثي، الترشح لانتخابات رئاسة السلطة وعن استعداده لتشكيل قائمة ظل لانتخابات المجلس التشريعي، في حال الإعلان عن قائمة فتحاوية تمثل مصالح وعلاقات رموز السلطة فقط.

وعبر بعض المتخوفين من تأثير هذه الخطوة على وحدة "فتح"، وبالتالي على عدد مقاعدها التشريعية، في مقابل سعادة آخرين بهذا الخبر على أمل كسر احتكار مراكز صنع القرار بيد حفنة من الأشخاص، وإحداث تغيير نسبي في سلوك وممارسة السلطة وربما مجمل الجسم السياسي الفلسطيني.

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

في حين أعتقد أن هناك جوانب أخرى لهذا الخبر لا بد من تناولها بهدوء بعيدًا عن التعصب الحزبي والشخصي، على أن ندع تحليل تبعات الانتخابات لموضع آخر، ولا سيما إن شهدت منافسة فتحاوية - فتحاوية بين أبي مازن ومروان البرغوثي، وربما بين أسماء أخرى.

إذ يتمتع الأسير مروان البرغوثي بشعبية جارفة داخل أوساط حركة فتح وربما في مجمل الوسط الفلسطيني، الأمر الذي يجعل من نجاحه الانتخابي أمرًا واردًا، رغم هيمنة القيادة الحالية على مراكز صنع القرار وعلى الشؤون المالية والاقتصادية والأمنية، لكن وبعيدًا عن النجاح أو الفشل الانتخابي، لا بد من التدقيق جيدًا في التوجه السياسي، وتحديدًا في البرنامج السياسي.

فنحن نعيش المرحلة التي أثبتت فشل مسار أوسلو، ووفاة حل الدولتين، وفق جميع التحليلات السلطوية والفلسطينية والصهيونية والعالمية؛ ما دفع العديد من المثقفين والسياسيين والناشطين إلى تقديم مقترحات لمخارج بديلة، سياسية وتنظيمية واجتماعية، تسعى إلى شق مسار جديد يتجاوز عثرات وأخطاء الحقبة الماضية.

وعليه لا بد من تقييم خبر ترشح الأسير مروان البرغوثي من هذا المنظور تحديدًا، وتفكيك نتائجه على مجمل الوضع الفلسطيني، قبل التفكير بدعم أو رفض الترشح أولًا والمشاركة الانتخابية ثانيا.

قد تكون مواقف وتوجهات الأسير مروان البرغوثي معروفة لغالبيتنا بحكم مكانته السياسية والنضالية والتنظيمية، كموقفه من توحيد الجسم السياسي الفلسطيني، ونبذ مظاهر الفرقة والانقسام، ودعم دور أوضح للشباب والمرأة، واستعادة خطاب وسلوك حركات التحرر، ورفض التنسيق الأمني، وغيرها من المواقف المشرفة والوطنية عمومًا.

لكن ما يغيب عن الأذهان، السياق العام لطرحه والرؤية السياسية التي ينطلق منها كذلك، وفق المعلن عنه قبل الاعتقال والأسر، ومن خلال بعض التصريحات والمواقف التي أعلن عنها بعد ذلك، ومنها المقالة التي نشرها في مجلة الدراسات الفلسطينية بعددها رقم 106؛ لربيع 2016، تحت عنوان "نحو توليد نخبة سياسية جديدة"، والذي تناولته بشيء من التحليل في مقالة منشورة في "العربي الجديد" بتاريخ 9 أيار/ مايو 2016، تحت عنوان "مبادرة مروان البرغوثي بين الواقع والطوباوية".

وينطلق الأسير مروان البرغوثي من نقد القيادة الفلسطينية المتحكمة بزمام الأمور وتحمليها بعد الاحتلال مسؤولية الواقع الذي نعيشه، دون أن يتطرق إلى نقد وتحليل مجمل المسار السياسي المتبع منذ أوسلو والبرنامج المرحلي، وكأننا أمام أزمة قيادة وأسلوب فقط، فهو يجدد الالتزام بالبرنامج المرحلي وإعلان الاستقلال وبالتالي بحل الدولتين، مع تحفظه أو معارضته لتخلي القيادة عن خطاب حركات التحرر.

هكذا وبكل بساطة يتم حصر المشكلة والأزمة الفلسطينية التي تعصف بنا، بمجرد خلل إجرائي وحيد، يتمثل في هجرانها لخطاب حركات التحرر واعتماده التفاوض كوسيلة نضالية وحيدة أو شبه وحيدة، بتجاهل خطير للعوامل التي ساهمت في التخلي عن فلسطينيي 48، وعن اللاجئين الفلسطينيين في الخارج؛ وهو ما يتلاقى مع الطرح أو الرؤية التي سبق لكل من رئيس وزراء السلطة السابق، سلام فياض، وعضو اللجنة المركزية في حركة فتح، ناصر القدوة، طرحها في مقالين منفصلين العام الماضي، بعنوان "إجراءات الضم تستدعي فعلا فلسطينيا طال انتظاره" للأول؛ و"مرة أخرى.. الدولة الوطنية والثبات عليها هو الأساس" للثاني، ورددت عليهما بالنقد والتحليل في مقالتين منفصلتين نشرت الأولى في موقع "عرب 48" بعنوان "تفنيد مقال سلام فياض" والثاني في موقع وصحيفة "العربي الجديد" بعنوان "مساجلة في تعويم حل الدولتين.. ردا على ناصر القدوة".

فمن الواضح من هذه المقالات الثلاثة، "مروان، سلام، ناصر"، إصرارهم على تعويم حل الدولتين والمضي قدمًا بذات المسار الكارثي المسؤول عن الوضع الفلسطيني اليوم، وكأن تجربتنا بعد 28 عامًا على توقيع اتفاق أوسلو، و47 عاما على إقرار البرنامج المرحلي، و33 عامًا على إعلان الاستقلال، حقبة زمنية عابرة وغير كافية لمراجعة هذا المسار كليًا ومن التيقن من فشله، مع العلم أن مجمل هذه الأعوام كانت تحت قيادة القائد الفلسطيني ياسر عرفات، الذي وافته المنية غالب الظن اغتيالا عبر السم في العام 2004، وهو المعروف بقدرته على المزاوجة بين التفاوض السياسي والنضال الشعبي، أي لقد شهد هذا المسار تبدلًا في أعلى رأس السلطة من أبي عمار إلى أبي مازن لاحقًا.

أي يمثل نهج أبو عمار النموذج الذي يدعونا الثلاثي المذكور إلى تقليده أو تبنيه اليوم، وكأن مرحلة قيادته لم تمهد الطريق للواقع الفلسطيني الراهن، من توسع الاستيطان وتحرير الدولة الصهيونية من أعباء احتلال فلسطين كامل فلسطين، ومن كسر وحدة الشعب الفلسطيني من خلال التخلي عن فلسطينيي 48، واستبعاد اللاجئين خارج فلسطين، والأهم من استبداله بعد توقيع اتفاق أوسلو تحديدا الرواية التاريخية الفلسطينية، من قضية تحرير إلى مسألة دولة مستقلة، وبالتالي تنازله عن جوهر القضية وعن الجزء الأكبر من أرض فلسطين.

إن محاكمة الخطاب السابق في مرحلة زمنية غابرة تعود بنا إلى نهاية العام 2004، وبالتحديد إلى الأيام التي تلت وفاة أبي عمار، قد تختلف قليلا مع محكمتها اليوم، رغم رفضي لهذا التوجه منذ ذاك الحين، غير أن الوقائع في حينها والزخم السياسي والنضالي الذي فرضته الانتفاضة الثانية، جعلا من استعادة مسار حركة التحرر أولوية على سائر المسائل، بما فيها نقد ومراجعة النهج والبرنامج السياسي، نظرًا لوجود قاعدة شعبية كبيرة مؤمنة بقدرة القيادة الفلسطينية على استعادة مجمل الحق الفلسطيني بغض النظر عن خطابها الخارجي.

في حين نجد اليوم مئات الوقائع التي تثبت نهاية حل الدولتين، وعجز السلطة والجسم السياسي عن مجابهة المخططات الصهيونية والدولية الرامية لشطب القضية الفلسطينية برمتها، وفق اعترافات رموز السلطة الفلسطينية ذاتهم، فضلا عن مئات التقارير والتصريحات الدولية المعبرة عن ذلك.

والأهم من ذلك، بروز عدة المؤشرات على حتمية توحيد نضال الشارع الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، بما يتناقض مع النهج القديم الذي تخلى عن فلسطينيي 48، واستبعد اللاجئين. فقد أثبتت الدولة الصهيونية منذ نشأتها وأكدته السنوات القليلة الماضية؛ طبيعتها التي أنكرها متبني حل الدولتين، كاستعمار إحلالي يعمل على تطهير شعب وتاريخ فلسطين عرقيا، ونظاما عنصريا تجاه الفلسطينيين حينما يتعذر عليها نفيهم وإبادتهم.

لذلك، لم يعد مقبولا الاستمرار في النهج الفاشل ذاته، القائم على حل الدولتين أو أي من شكل من أشكاله، كما في وثيقة الاستقلال والبرنامج المرحلي، وبات من اللازم علينا مراجعة مجمل تجربة التحرر الوطني، مراجعة نقدية جذرية لا مواربة فيها. فالأزمة الفلسطينية الراهنة أزمة مشروع وخطاب وممارسة بالدرجة الأولى والثانية والثالثة، لا يصح تمويهها عبر شخصنتها وحصرها بشخص أو زمرة كأبي مازن والمحيطين به من أزلام السلطة والجسم السياسي الفلسطيني الرئيسيين.

وعليه لا بد من كنس الأوهام ومصارحة الشعب الفلسطيني بالحقيقة كاملة دون أي تردد، مهما كانت قاسية وصعبة. وهو ما ينطوي على شرح وتوضيح معنى ترشح الأسير القائد مروان البرغوثي للرئاسة وفق ذات الرؤية والمسار الذي أعلن عنه في مقالته المشار إليها سابقا، فعلى الرغم من كل الاحترام والتقدير لمسيرته النضالية التي لا خلاف عليها، وبغض النظر كذلك عن رمزية وقداسة المناضلين عمومًا، إلا أن مصلحة فلسطين شعبا وقضيةً تسموا فوق كل اعتبار آخر.

وبناء عليه، أجد في ترشح الأسير مروان البرغوثي ونجاحه في إقصاء أبي مازن انتصارا وهميًا وهزيمة جديدة لمشروع تحرير فلسطين كّل فلسطين، على اعتباره مراوغة سياسية مستجدة لبعث الروح في جسد أوسلو الميت وبحل الدولتين، وضربة جديدة لجهود مئات الوطنيين الصادقين والعازمين على استعادة المسار الذي يمثل مجمل التجمعات الفلسطينية وجميع حقوقهم التاريخية والراهنة على قدم وساق، من خلال شق طريق توحيد النضالات الفلسطينية الوطنية حتى إقامة دولة فلسطين العلمانية والديمقراطية الواحدة، لجميع سكانها الأصليين والحاليين على أنقاض الاستعمار الصهيوني الإحلالي والعنصري القائم اليوم في فلسطين بدعم وتواطؤ إقليمي ودولي.

في النهاية، لا حاجة لنا اليوم ببعث روح جديدة في أوسلو أو في حل الدولتين، لذا اعتبر ترشح مروان البرغوثي وفق هذه الرؤية خطأ وطنيا كبيرًا، ينتقص من تاريخه النضالي ومن مكانته الشعبية والسياسية.

اقرأ/ي أيضًا | المقدسيون والمشاركة في الانتخابات الفلسطينية: المحتوى والآليات

وكذلك الأمر بما يخص مجمل العملية الانتخابية السلطوية المنطلقة من واقع أوسلو والهادفة إلى تثبيته عبر انتخابات وهمية وشكلية. وعليه فلا بد من مقاطعة هذه الانتخابات التي تتحايل على أزمة المشروع الوطني، سواء شارك بها الأسير مروان الرغوثي ترشحا أم لم يشارك، فهي تجسد الانقسام الجغرافي والسياسي شعبيا بين مناطق سلطة و48 وخارج فلسطين، كما تتنكر لمجمل الحقوق الفلسطينية كالحق بأرض فسطين كّل فلسطين، والحق في النضال والتحرير، والحق في العودة والتعويض وتقرير المصير.