"هل تعلمون ما الّذي حقّقاه منى ومحمّد الكرد؟ جعلانا نشعر أنَّ مَنِ اعتُقِلَ اليوم أحد أفراد عائلتنا، لأنّهما ساهما في جعلنا عائلة كبيرة، وجعلا الشيخ جرّاح يمتدّ حتّى أمريكا. مَنْ منّا لا يشعر بأنّ العمّ نبيل هو والده الطيّب؟".

تابعوا تطبيق "عرب ٤٨"... سرعة الخبر | دقة المعلومات | عمق التحليلات

هذا ما كتبته صباحًا الصحافيّة منى العمري، تعليقًا على الاعتقال الّذي شاهدناه بالبثّ الحيّ، للشقيقين الشابّين اللّذين صارا خلال أسابيع قليلة أيقونتين نضاليّتين، يرقبهما ويُصْغي إليهما الملايين حول العالم باهتمام.

فزع وطنيّ أصاب وسائل التواصل الاجتماعيّ، وشيء من طمأنة، تلخّصها "متخافوش" على لسان منى لدى اعتقالها، وتحدٍّ صبور يشبه الأب، نبيل الكرد، الّذي وضع كرسيّه على باب المحطّة منتظرًا تحرير ولديه، وقد صار أبًا للجميع.

إنّ أكثر ما قد يحتاج إليه شعب في ظلّ استعمار، هو هذا؛ أن يشعر أنّه عائلة موحّدة رغم التفاوتات فيما بينها، تواجه مصيرًا مشتركًا، يتداعى أفرادها لمؤازرة بعضهم البعض في مواجهة المحن، لكلٍّ دوره وموقعه الضروريّ، وفرصته في أداء هذا الدور، بعيدًا عن الهرميّات وصناعة الزعامات والإفتاء وأفعال الأمر. وفي هذا لا يزال مجتمعنا السياسيّ التقليديّ يخفق إخفاقًا ذريعًا، ولا أقصد بذلك الأحزاب والفصائل فقط، وإنّما أيضًا الكثير من المؤسّسات المضطلعة في صناعة الرأي العامّ والتمثيل والتنظيم، على اختلاف أنماطها ومجالات تخصّصها.

لنتأمّل شيئًا من الملامح السياسيّة لذلك: منصور عبّاس، وبعد أن صار وكيلًا حصريًّا للإسلام بصيغته المحبّبة إسرائيليًّا، يوقّع على انضمامه إلى حكومة بينيت - لبيد، دون أدنى حساسيّة لما يجري من حوله، وهي طريق شقّتها أحزاب "المشتركة" جميعًا في السابق، وما كان منه إلّا أن سار متجاوزًا الآخرين، حتّى وصل إلى هنا. أمّا السلطة فتقمع تظاهرات وتعتقل ناشطين وتلاحق إعلاميّين في سياق الهبّة، كما تتنافس مع الفصائل في غزّة على ملفّ إعادة الإعمار، وتحاول منعها من تحقيق مكتسبات سياسيّة على مستوى الإقليم. بدورهم، وتحت وطأة هذا الإقليم واعتباراته، يقدّم سياسيّو "حَماس" الهبّة هديّةً لأنظمة عربيّة وإقليميّة، هي موضع خلاف شديد بين الناس، حتّى على مستوى جمهورها المباشر، دون أيّ اعتبار للّحظة التاريخيّة الجامعة ومتطلّباتها، وبنوع من الاستئثار والاحتكار لمنجزات شعبٍ كامل لا لون واحد له.

هذا هو القصور الّذي يكرّسه المجتمع السياسيّ في صناعة الأمل للناس، والعجز عن بناء عقدٍ اجتماعيّ لتنظيم المصالح وإدارة الخلافات، والفشل في استثمار الهبّات المتتالية وإنجازاتها كلّ مرّة، نحو ترميم الذات الوطنيّة، وتحديد أهداف جامعة للكلّ الفلسطينيّ ضمن مشروع واحد.

في المقابل، فإنّ عالمًا موازيًا حصل ويحصل الآن، يحاول أن ينأى بنفسه عن كلّ تلك الرداءة وينعتق من شروطها؛ عالم تعبّر عنه وجوه مثل منى ومحمّد الكرد إعلامًا، و"شبّ جديد" و"الضبّور" فنًّا، ومجاهيل المقاومة الملثّمين في غزّة قتالًا، والأمثلة كثيرة جدًّا.

إنّها العائلة الكبيرة، الّتي تتكوّن من إعلاميّين لا تهمّهم الكياسة لدى مخاطبة "المجتمع الدوليّ"، ولا يقيمون وزنًا كبيرًا لِفَهْمِ الإسرائيليّين من عدمه بالألسنة العبريّة المبينة، بالإضافة إلى مبدعين ينخرطون في عشرات الفعاليّات الثقافيّة الاحتجاجيّة مثل "ماراثون القدس" المقموع أوّل أمس، ومناضلين ينظّمون مبادرات تتجاوز حدود المعازل، مثل "أسبوع الاقتصاد الوطنيّ" الجاري هذه الأيّام، ومحامين يترافعون تطوّعًا عن المعتقلين، وكتّاب، ومصمّمين، ومؤثّرين في وسائل التواصل الاجتماعيّ، ومغنّين شعبيّين، وباحثين، ومصوّرين، ومسعفين، وناشطين عنيدين يعيدون رسم الجداريّات الوطنيّة الّتي تُمْحى في مدننا، فيمحونَ مَحْوَها، ومتضامنين عالميّين من كلّ جنسيّات الأرض، وقبل كلّ هؤلاء المتظاهرين والمعتصمين في كلّ مكان، والشباب "الملاح" الّذين دافعوا عن حاراتهم من اعتداءات العصابات القوميّة الصهيونيّة تحت حماية الأجهزة الأمنيّة الإسرائيليّة، وعوائل الجرحى والشهداء.

ليس من معجم هذه العائلة، ولا من شعاراتها - على ما يبدو - شكلٌ لدولةٍ ما أو حدود، وهي تقدّم مفاهيمها كلّ يوم عبر الآلاف من الموادّ والبثوث الّتي تُرْفَع إلى الشبكة: تطهير عرقيّ، أصحاب البلاد، سرقة، استعمار استيطانيّ، أبرتهايد، الكلّ الفلسطينيّ، مقاومة، مصير مشترك، عدالة، كامل التراب الوطنيّ، آن للنكبة ألّا تستمرّ... إلخ.

وعلى ما يبدو أيضًا، فإنّ المجتمع السياسيّ، لنقل قياداته على الأقلّ، في حالة تأخّر كثير عن ذلك، وعليهم إن رغبوا بالانضمام إلى العائلة الكبيرة، وألّا يفوتهم الإحساس بقوّة دفئها، أن يقدّموا أمورًا غير بلاغة الشعار ورومانسيّة الخطاب، وإنّما بدء العمل على برامج ومبادرات سياسيّة، لا تختصّ في مَعْزَلٍ من معازل إسرائيل، الّتي توزّع الفلسطينيّين عليها وتديرهم بها، وإنّما برامج ومبادرات تختصّ بكلّ فلسطين، ناسًا وأرضًا، استنادًا إلى معجم هذه العائلة، ونزولًا عند إرادتها.