في الحديث السابق، تحت عنوان غياب الإستراتيجية: من النكبة إلى النكسة، تناولنا الأسباب التي أدت إلى نكبة فلسطين عام 1948. وقد توصلنا إلى أن أحد الأسباب الرئيسية لحدوث النكبة هو غياب الإستراتيجية العربية، التي هي الوجه الآخر لغياب دور الإنسان في المشاركة في تقرير أقداره ومستقبله. ووعدنا أن نناقش في الحديث نكسة الخامس من حزيران، التي مر عليها قبل عشرة أيام 38 عاما. ووعدنا أيضا بأن نجري عملية تفكيك للأسباب التي أدت إلى حدوثها. فما هي تلك الأسباب؟

وابتداء نشير إلى أنه منذ عام 1948م وحتى يومنا هذا، عاش اللاجئون الفلسطينيون في مخيمات بائسة، بنيت لهم في الضفة الغربية وقطاع غزة والأردن وسوريا ولبنان. أما من بقي منهم مواجها نار الإحتلال في الجزء الذي أقيمت عليه دولة اسرائيل فلايزالون مقيمون هناك. وبعد عدوان الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، أضيف لهؤلاء فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد أن احتلت اسرائيل البقية الباقية من الأراضي الفلسطينية. وقد بقي معظم اللاجئين الفلسطينيين منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا معتمدين على المساعدات الزهيدة التي تقدمها لهم وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة. وفي هذه المخيمات يتوفر القليل من الطعام والسجائر، ولاشيء آخر... الحياة تستمر، ولكن الأمل في العودة إلى الوطن أخذ يخبو مع الأيام.

ومنذ النكبة أصبح الفلسطينيون موزعون في الوطن العربي، يملؤهم إحساس بوجود عدو معلن هو الدولة الصهيونية التي اغتصبت أرضهم، وعدو غير معلن يتمثل في غياب أية استراتيجية عربية عملية لتحرير فلسطين. وتعقد الموقف بسبب التركيبة السياسية السائدة في الوطن العربي في حقبة الستينيات. حيث كان الشارع العربي في المناطق التي يتواجد فيها الفلسطينيون بكثافة يتوزع في انتماءاته السياسية إلى مجموعة من الإتجاهات السياسية المختلفة. وكانت امتدادات هذه الاتجاهات تخترق بعمق الحركة الوطنية الفلسطينية وتعت من سيرها اللاهث نحو هدف التحرير.

وكان إحساس اللاجئين الفلسطينيين في مخيماتهم بالحرمان، والوضع غير الطبيعي الذي يعيشون فيه بتلك المخيمات، قد خلق بيئة ملائمة لنشوء حركة وطنية تكون رأس الحربة في عملية التحرير. وربما يتساءل المرء عن الأسباب التي دفعت بهؤلاء اللاجئين إلى النضال والتشبث بحقهم في العودة إلى ديارهم بعد تلك السنين الطويلة. ولماذا لم يندمجوا في المجتمعات التي استضافتهم. والجواب بداهة، يكمن في إيمان هذا الشعب بحقه في الحرية والإستقلال وتقرير المصير، شأنه في ذلك شأن سائر الشعوب الأخرى التي خضعت للهيمنة الاستعمارية، والتي قاتلت واستبسلت وقدمت الضحايا حتى انتزعت استقلالها وحريتها... إن تلك الدوافع هي ذاتها التي قادت لبروز حركة التحرير الوطني الفلسطيني: فتح في بداية الستينيات. وكانت معاناة الفلسطينيين في مخيماتهم قد جعلتهم منـذ البدء العمود الفقري لمقاتلي فتح، حيث جرى استقطاب وتدريب أعداد كبيرة منهم في القواعد العسكرية السورية بدعم من النظام السوري القائم آنذاك.

أشار البيان العسكري الأول لمنظمة فتح الصادر في الفاتح من كانون الثاني/ يناير عام 1965، إلى أن هذه الحركة هي استمرار للكفاح الفلسطيني الذي بدأ بالثلاثينيات، تحت قيادة عبد القادر الحسيني والذي تواصل عام 1956، ضد الأوضاع المزرية في مخيمات قطاع غزة. مؤكدا عزم حركة فتح على شن هجمات عسكرية ضد الكيان الصهيوني، محددا الغرض من تلك العمليات العسكرية على أنه العمل على إيقاف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإرغام اليهود الذين استوطنوا فلسطين، عن طريق إرهابهم، للقيام بهجرة معاكسة منها، وتعطيل المشاريع الصهيونية عن طريق اشغال العدو بمواجهة المقاومة الفلسطينية المسلحة، وإرهاق الإقتصاد الإسرائيلي. كما أوضح البيان أن عمليات المقاومة المسلحة سوف تذكر العالم من جديد أن الصهاينة لم يحتلوا أرضا خالية من البشر، كما جاء في ادعاءات رئيسة الوزارة الاسرائيلية، غولدا مائير أن فلسطين هي "أرض بلا بشر، لبشر بلا أرض" ، بل إنهم استوطنوا أرضا وشردوا شعبها، وأن هذا الشعب قد امتشق السلاح، وقرر أن يدفع الثمن غاليا، ليعيد أرضه وحريته واستقلاله. هكذا بدأت مسيرة الثورة الفلسطينية باتجاه تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في استرداد هويته، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على أرضه.

هذا وكان مؤتمر القمة العربي قد عقد أول دورة له بدعوة من الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر. وفي تلك الدورة أقر تشكيل كيان ثميل الفلسطينيين ويقود نضالهم نحو التحرر والإستقلال. وبناء على هذا القرار تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية التي عقدت مجلسها التأسيسي في مدينة القدس عام 1965.

في البيان الصادر عن المجلس الوطني الفلسطيني عقب انتهاء دورته الأولى التي عقدت في مدينة القدس في الفترة من 28 مايو إلى 2 يونيو 1964، أعلنت المنظمة أن هدفها الرئيسي هو تحرير كامل التراب الفلسطيني، عن طريق تبني استراتيجية الكفاح المسلح، وجرى تعريف الفلسطيني على أنه العربي الفلسطيني المقيم في فلسطين المحتلة، أو اللاجىء الفلسطيني الذي كان مقيما في فلسطين حتى احتلالها عام 1947 من قبل الصهاينة. كما شمل التعريف اليهود الذين كانوا مقيمين في فلسطين قبل عام 1947. أما اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين بعد ذلك التاريخ فقد اعتبروا مهاجرين أجانب، ينتمون إلى دين، لا إلى قومية. كما أكد البيان على رفض أية مساومة مع العدو على حقوق الشعب العربي الفلسطيني.

وبعد عدة شهور من انعقاد الدورة الأولى للمجلس الوطني الفلسطيني، بدأت حركة فتح عملياتها العسكرية ضد الكيان الصهيوني، منطلقة من الأراضي السورية. وعندما ازدادت تلك العمليات، وبدأت في إحداث إرباك لأمن إسرائيل، هدد رئيس وزرائها ليفي أشكول بتصعيد الصراع ونقله إلى داخل الحدود السورية. مما دفع بالحكومة السورية لتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع الحكومة المصرية.

إثر التوقيع على معاهدة الدفاع المشترك، أصدر الرئيس المصري جمال عبد الناصر أوامره بإغـلاق مضائق تيران في خليج العقبة، مما يعني عمليا إيصاد منافذ ميناء إيلات المطل على البحرالأحمر في وجه إسرائيل. وفي نفس الوقت، قامت القوات المسلحة المصرية بالتحشد شمالي سيناء، للوقوف إلى جانب القوات السورية في حالة تعرضها لأي عدوان من قبل إسرائيل. كما طلب الرئيس عبدالناصر من قوات المراقبة الدولية التابعة للأمم المتحدة الانسحاب من الأراضي المصرية المحاذية للكيان الصهيوني. وفي الأول من مايو عام 1967 انضم الأردن إلى معاهدة الدفاع المشترك بين سوريا ومصر. وقام الملك حسين بتوقيع تلك المعاهدة.

وفي الخامس من يونيو 1967، هاجم الكيان الصهيوني كل من مصر وسوريا والأردن، وبدأت ماهو معروف الآن بحرب الأيام الستة، مدعية أنها قامت بحرب وقائـية ضد العرب الذين يرغبون في تدميرها. وقد نتج عن هذه الحرب احتلال اسرائيل لشبه جزيرة سيناء في مصر، والضفة الغربية وقطاع غزة ومدينة القدس الشرقية البقية الباقية من فلسطين التاريخية، ومرتفعات الجولان السورية.

وعند انتهاء هذه الحرب، بعد الهزيمة الساحقة لجيوش مصر وسوريا والأردن، كان من الواضح أن جماهير الشعب الفلسطيني والشعب العربي بأسره، قد واجهت صدمة عنيفة وخيبة أمل في الحكام العرب الذين تسببوا في نتائج تلك الهزيمة المروعة. وكان المعتقد في أوساط الشعب العربي بعد النكسة، أن الجيوش العربية سوف تواصل القتال لاسترداد الأرض التي احتلتها إسرائيل، حتى بعد الهزيمة التي لـحقت بها. إلا أن تلك الجيوش لم تكن أبدا في وضع يسمح لها بالتصدي للعدوان الإسرائيلي.

هكذا كانت أخذت نكسة الخامس من يونيو عام 1967 فمكانها في الواقع العربي. لكن الأسئلة تبقى قائمة: لماذا حدثت تلك النكسة؟ ولماذا لم تتمكن الجيوش العربية من الدفاع عن أوطانها؟ وأين غابت الإستراتيجية العربية للتحرير؟ وهي أسئلة هامة وملحة إذا أردنا أن نتعلم من عبر التاريخ، وأن نتخذ من دروسه بوصلة نهتدي بها في الحاضر والمستقبل