بدأ جورج ميتشل جولة جديدة من أجل الاتفاق على استئناف المفاوضات، بين الحكومة الإسرائيلية ومنظمة التحرير الفلسطينية.

لقد ركز المبعوث الأميركي للسلام منذ استلامه مهام منصبه منذ أكثر من سبعة اشهر، على التوصل الى مقايضة تقضي بتجميد الاستيطان تجميداً كاملاً، بما في ذلك النمو الطبيعي، كما ورد في التقرير الذي قدمه لإدارة جورج بوش السابقة عام 2001، وكما جاء في خارطة الطريق المطروحة منذ عام 2003، مقابل خطوات تطبيع عربية مع إسرائيل.

ورغم الخلل الجوهري في حصر التحرك الأميركي، وبالتالي الدولي بمسألة تجميد الاستيطان، الا انه فشل مع ذلك، فضلا عن انه قفز عن جذر الصراع وطبيعته وأبعاده، وعن التجارب التفاوضية السابقة التي حاولت وفشلت لان تصل لحل عن طريق تقسيمه الى مرحلتين: انتقالية ونهائية، وفصل القضايا عن بعضها بعضا، والتعامل مع كل قضية على حدة، ثم تحويل كل قضية الى تفاصيل، والتفاصيل الى اجزاء اصغر منها، ما ادخلنا في متاهة عرفنا كيف دخلنا اليها ولا نعرف كيف نخرج منها.

كان على إدارة باراك اوباما، إذا أرادت فعلا إنهاء الصراع، ان تدفع لقيام مفاوضات على الوضع النهائي تقوم على أسس جديدة بعيدا عن المسار السابق للمفاوضات، الذي بدأ منذ اتفاق اوسلو وملحقاته، وانتهى الى خارطة الطريق وأنابوليس، وعليها أن تركز على مفاوضات من اجل التوصل الى حل نهائي، على أساس الاتفاق على الهدف النهائي منذ البداية، واستنادا الى القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتوفير مشاركة دولية فاعلة بالمفاوضات، وأن تكون محددة زمنيا في جداول زمنية قصيرة يتم الاتفاق عليها، ووضع آلية ملزمة وضمانات حقيقية لتطبيقها.

ولكنها بدلاً من ذلك، اختارت إدارة اوباما أولاً أن تبدأ عملها من مسألة المستوطنات ما خفض سقف المفاوضات منذ البداية، وشكّل تعاملا مع الفرع وترك الأصل وهو الاحتلال، وسيؤدي هذا المسار إذا استمر إلى ان تكون المفاوضات القادمة مثل سابقتها، مفاوضات بلا مرجعية وعبثية.

كما رضخت الإدارة الاميركية ثانياً الى الإرادة الاسرائيلية التي هدفت الى ادخال المفاوضات حول الاستيطان الى التفاصيل، بحيث اصبح الحديث يدور عن الاستيطان في القدس وخارج القدس، وفي الكتل الاستيطانية والمستوطنات الصغيرة، والبناء الأفقي والعمودي للاستيطان، وعن البناء في حدود المستوطنات وخارجها، وفي المستوطنات "الشرعية" والبؤر غير الشرعية، والوحدات الاستيطانية قيد البناء، وحق المستوطنين في مواصلة المشاريع التي تمت المصادقة عليها، وفي المرافق العامة، بحجة تلبية احتياجاتهم المختلفة، الامر الذي حرف الأنظار عن الحقيقة الأصلية وهي الاحتلال، وان الاستيطان برمته غير شرعي وغير قانوني ويجب إزالته وليس وقفه فقط.

لقد حققت إسرائيل عبر فتحها ملف الاستيطان إصابة عدة عصافير بحجر واحد، وذلك من خلال إدخال الولايات المتحدة الأميركية، والعالم كله، في متاهة شيطان التفاصيل حول الاستيطان، فهي ضمنت:

أولاً - إضعاف وتفكيك الاصطفاف الدولي والأميركي تحديداً حول مطلب تجميد الاستيطان. فهناك أوساط أميركية عديدة وافقت على تجميد الاستيطان ولكنها رفضت تجميده في القدس، وفي الكتل الاستيطانية الكبيرة لأنها من المفترض ان يتم ضمها الى إسرائيل في الحل النهائي وفقاً لاقتراحات بيل كلنتون 2000/2001، ولورقة التفاهمات التي منحها جورج بوش لارئيل شارون عام 2004.

ثانياً: لقد أصبحت مسألة الخطوات التطبيعية العربية حقاً مكتسباً لاسرائيل وتحصيل حاصل، وشرطاً لا يمكن تجميد الاستيطان بدون توفيره. وهذا أمر ظالم لأنه لا يمكن مقايضة الحق بالظلم.

ثالثاً: اسرائيل حصلت على الشرعية لمواصلة الاستيطان اذا فشلت المفاوضات أو توقفت مرة اخرى بعد استئنافها، او اذا لم تقدم الدول العربية على الخطوات التطبيعية المتفق عليها، والتي تشمل فتح خطوط الطيران العربية أمام الطيران الإسرائيلي، وإعادة فتح البعثات التجارية والسياحية وتبادل الزيارات والمشاركة في مؤتمرات مشتركة .........الخ.

فحكومة نتنياهو تصر على منحها "جواز مرور" يسمح لها باستئناف الاستيطان كلياً إذا لم تحقق الشروط المذكورة أو بعضها، وهذا يعني إعطاء الاستيطان شرعية أميركية ودولية وفلسطينية وعربية.

إن ميتشل يبدو الآن في وضع صعب جدا، فهو حتى ينجح في مهمته يجب أن يقبل بالموقف الاسرائيلي والذي انتهى الى ان أي تجميد للاستيطان لن يشمل القدس، ولا المرافق العامة، ولا الوحدات الاستيطانية قيد البناء والتي يصل عددها الى أكثر من 5000 آلاف وليس 2500 وحدة، ومئات الوحدات الاستيطانية الجديدة التي صادقت عليها الحكومة الإسرائيلية مؤخرا لإرضاء المستوطنين، في تحد صارخ لإدارة اوباما والعالم كله.

وإذا قبل ميتشل وإدارته بالموقف الإسرائيلي، كما تدل مؤشرات عديدة، فإن عليه أن ينتقل للضغط على الفلسطينيين والعرب حتى يقبل الرئيس محمود عباس المشاركة في القمة الثلاثية في نيويورك والتي من المفترض أن تعلن استئناف المفاوضات، وبسحب المطالبة بتجميد الاستيطان تجميدا كاملا، ويوافق على المشاركة بالقمة وعلى استئناف المفاوضات، ويقبل العرب تقديم الخطوات التطبيعية مقابل التجميد المؤقت والجزئي للاستيطان.

إذا وافق الفلسطينيون والعرب على ذلك، فإنهم يوجهون ضربة قوية جدا لمصالحهم وأهدافهم. فبدلا من أن يطالبوا الإدارة الأميركية بالوفاء على الأقل بما وعدت به وهو تجميد كامل للاستيطان، والإصرار عليه كشرط لاستئناف المفاوضات، يقعون في هذه الحالة بالفخ الإسرائيلي ويدخلون في دوامة مفاوضات عبثية جديدة.

إن استئناف المفاوضات من دون التزام إسرائيل بتجميد كامل للاستيطان يعني أن كلفة التجميد المؤقت والجزئي للاستيطان، الذي من المفترض أن لا يستمر أكثر من عام واحد، فلسطينياً وعربياً ودولياً ستكون أكبر من تكلفة استمرار الاستيطان!!!!

ففي كل عام معدل التوسع الاستيطاني حوالي 2000 وحدة استيطانية، بينما حصلت حكومة نتنياهو حتى الآن، أو يمكن أن تحصل على الموافقة على مواصلة البناء في آلاف الوحدات الاستيطانية، وبالتالي فإن عدم تجميد الاستيطان في هذه الحالة وعلى هذا الشكل، أفضل من تجميده!

هناك من يقول خصوصا في الإدارة الأميركية "إن شيئاً افضل من لا شيء"، وإن وقف المفاوضات لا يوقف الاستيطان، وإن استئناف المفاوضات يمكن أن يحقق هدف تجميد الاستيطان أو التوصل الى اتفاق سلام نهائي ينهي الصراع.

رداً على هذه الأقوال نقول: إن ما لم يتحقق قبل استئناف المفاوضات، وبينما حكومة إسرائيل مأزومة حيث تواجه باصطفاف دولي يطالبها بتجميد الاستيطان، لا يمكن تحقيقه بعد استئناف المفاوضات وبعد منح إسرائيل جوائز عربية. إن هذا إن حصل يفتح شهية إسرائيل على المطالبة بالمزيد من التنازلات الفلسطينية والعربية، كما حدث سابقاً بعد مسيرة طويلة للمفاوضات، وبعد كل المؤتمرات والتي كان آخرها مؤتمر أنابوليس.

نعم، إن وقف المفاوضات، (وكفى) لا يوقف الاستيطان، ما يعني ضرورة أن يكون وقف المفاوضات بداية أو جزءاً من عملية مراجعة شاملة وجريئة تستهدف استخلاص الدروس والعبر، التي تفرض اللجوء إلى بدائل أخرى وتغيير مسار المفاوضات كلياً، والإصرار على أن تكون المفاوضات القادمة مثمرة، وتستند الى إطار دولي ومرجعيتها القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وليس ما تقبله أو لا تقبل به إسرائيل. مراجعة تعيد الصراع إلى حقيقته بوصفه صراعا بين الاحتلال وشعب واقع تحت الاحتلال، ولا يمكن وضع حد له إلا بإنهاء الاحتلال.

إن الإدارة الأميركية الجديدة، ينطبق عليها المثل القائل "من أول غزواته كسر عصاته".

فهي رضخت للحكومة الإسرائيلية بدلاً من ممارسة الضغوط عليها، وبدأت مسيرتها بسقف منخفض جدا هو تجميد للاستيطان، وتتعامل مع الضحية والجلاد على قدم المساواة، وهذه السياسة رغم أنها أفضل أو أقل سوءا من سياسة بوش ولكنها لن تجلب السلام، وإنما ستنتهي سريعا إلى العودة إلى سياسة إدارة الصراع بدلاً من حله، والدفع باتجاه حل يلبي المصالح والأهداف والشروط الإسرائيلية الجوهرية.

إن هذا يدل مرة أخرى على أن الفلسطينيين والعرب يجب أن يعتمدوا على انفسهم أولاً وأساساً وعاشراً، ويجمعوا عناصر وأوراق القوة والضغط التي يملكونها، ويوظفوها في الكفاح لحل الصراع عبر استخدام اللغة التي يفهمها العالم وهي لغة المصلحة. وبعد ذلك، بمقدورهم أن يطلبوا من الاخرين أن ينتصروا لقضيتهم وللعدالة وللحق والمساواة، أما الاستجداء والتمنيات والانتظار والاعتماد على الغير فلن يحصد لهم سوى الخيبة!!!
"الأيام"