وصلني بأنه من المفترض أن أكون أقل حدة في قراءاتي ونقدي للواقعين الفلسطيني والعربي.. أن يكون رأسي أبرد قليلا من مياه نهر بردى، وهو يجري متدفقا أيام طفولتي الدمشقية.. جربت مرات ومرات أن أنقطع عن قلمي.. أتركه فوق بعض الكلمات المتناثرة على ورقة بيضاء.. كنت أذهب إلى تناول كتب ولو نُشرت قبل أن أُولد.. وبعضها روايات مسخوطة أكثر من هذا الواقع.. وربما حين كان بعض معارف أبي يقولون له: ابنك يحمل السلم بالعرض كان القرف ينتابني، إذ رأيت، كمراهق، في كل واحد من هؤلاء استنساخا لـ"أبو الخيزران"..

كم من شجاعة يحتاج بعض رؤساء تحرير صحفــ"نا" العربية ليصلوا إلى مستوى يفرق بين الإسفاف وقول الحقيقة.. وكم من انسجام نحتاج بين أصواتهم على التلفاز والنشر المستقل عن عسس الكلمات..

فكرت ذات مرة.. ماذا لو كان هذا أو ذاك لم يرحلوا عن الدنيا ليروا أين وصلنا؟..
صحيح، ماذا لو أن عظام جدي، التي بحثت عنها في بلد الشيخ لم تكن عظاما.. ماذا كان سيقول "أبو نصار" وهو يرى ما رأيته تحت الأرض في بلد الشيخ؟.. ماذا لو كان كل الذين سقطوا، عربا وفلسطينيين، يراقبون رويبضات العصر وأناقة وعطرا فرنسيا وإيطاليا يغطيان على حقيقتهم وهم يلقون علينا مواعظ كيف ومتى وجب أن نفتح أفواهنا.. وإلى أين تجرنا مرحلة حرق المراحل دفعة واحدة..

هناك وليس بعيدا عن قبر الشيخ عز الدين القسام، ابن جبلة السورية، أصابتني صدمة الباحث عن جذور وأجداد.. بقايا عظام جثث من كل الأعمار، بحبال تكبل الأيدي، مخزنة فوق بعضها تحت الأرض في مقابر جماعية.. هذه لم تكن صورة من الصور التي يتخيلها مخيما أقيم في الأصل للعودة.. كل حي وكل زقاق وكل ساحة تحمل اسما لقرية ومدينة.. ليُختزل وطن الأجداد والأحفاد في رواية يُراد محوها لنوزع بين هنا وهناك.. نحمل صلباننا دون أن نُصلب.. ما زال الطواف في أوله.. فالآن نبوءة مظفر النواب شاخصة عند بواب المدن العربية..

لكن، كم " حائط مبكى" صار لنا؟

بعدد أنفاق القدس القديمة.. بعدد العواصم.. بعدد اللاجئين.. بعدد الفصائل.. بعدد المذابح التي نستذكرها وكأنها حدثت لمجهولي نسب وانتماء.. فأية كذبة عشنا.. وأية أضاليل نُسقى..

ترفض كل أوروبا أن تعترف بالشطر الجنوبي لقبرص.. لم تنقسم أوروبا بين "معسكر معتدل ومتطرف".. لكننا نقبل بأن نكون كممالك الطوائف.. " أرشيفهم وتاريخنا".. فضيحة بكل مقاييس الأرض والسماء.. ولتبقى رؤوسنا باردة..

ما معنى أن يرسل رئيسا عربيا "برقية تهنئة" بتأسيس دولة احتلال لأرض عربية؟..
خبر عادي.. في صحف العسس.. وخبر أكثر من عادي عند الرويبضات.. وملحقات "ثورية".. فلتتضح الصورة إذن بدل كل هذا الغبش والوهم والبكائيات..
فمن يهنئ سفاح قانا كأنه يقول لنا أنتم "مخلفات تاريخ".. ومن يرسل برقية تهنئة في السر والعلن يكذب علينا وعلى عمقنا العربي..

ألا يثير شيئا من الحقيقة المدفونة في دير ياسين وكفر قاسم وبلد الشيخ وقبية وبحر البقر وقانا وجثث الأسرى الذين أُعدموا في الصحراء العربية؟.. شيئا ما يشير السهم إليه..
ماذا يتبقى من برقيات لترسل لملايين المشردين من اللاجئين؟

لا شيء ربما سوى مزيد من الدعوات السخيفة بأن يرفض من بقي صامدا على أرضه القرار العسكري الإسرائيلي بالطرد من أرضه.. ترى ما الفرق بين هذا وذاك قبل أكثر من 62 عاما..؟


حنكة سياسية وأخلاقية لا مثيل لها.. و "الغوغاء" من أمثالنا لا يفهمون " ألف باء السياسة".. والكرامة مجرد خرافة نطعهما لأطفالنا مجبولة بدم الحصار.. ظل عرفات يردد "اللي مش عاجبه يشرف من بحر غزة" حتى صار شعبه يشرب من بحر غزة..

أكرر على نفسي سؤالا: من أين تأتي برقية التهنئة لكيان يعلم الفلسطينيون أطفالهم بأن كل مدينة وقرية هي حقهم الثابت والتاريخي سابقا ومستقبلا؟
لا عجب.. لا عجب في تهقع رجل فلسطيني علينا حين ردد خرافة توراتية عن فلسطين.. أن يلهث عرب آخرون في هيزعة الهزيع حين تحكمنا النَيُوب..

الإستهناء في لغة الضاد تحمل دلالات كثيرة تجمع بينها المسرات.. تهنأوا.. أي افرحوا به.. إستهنأهُ.. أي استنصرهُ..
في الحالتين لم تسعفني لغة الضاد أن أدرك معنى آخر سوى أن أقارن بين فعلين، فعل إستهنع فيه المشهد العربي حتى انكسرت الهامة والرقبة.. وفعل آخر، ليس عربيا، لا يرى أن لهؤلاء الذين يهنئهم العرب حقا في أرض بعد أن بانت كذبة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"..

الوضع الهلوع ينتج عقلا هلعا.. أو منافقا إن شئتم.. متلازمتان في تمني أن يمن المُهنأ على شعب فلسطين بـ"دولة" تنضم إلى جمع الهزيع.. ليسود الهناء والرخاء الموعودين في شرق أوسط هانئ ووديع ومعتدل تنطفئ فيه أضواء السجون والمعتقلات.. فيصبح الكل كالكل.. السارق مثل المسروق.. وليكون للكل "حائط مبكى" واحد، توراة واحدة تتلو دروسا على البشرية في أسفار التسييس لمعنى قتل يقتل قتلا..

هنيئا إذن لكم بهملعة أنظمة الحياد.. لا نيح الله عظامها.. وهي تهنئ ناكبينا بنكبتنا!