لا يمكن لأي شخص لديه ذرة من الوطنية أن يقف معارضاً أو في وجه مصالحة فلسطينية حقيقية تقوم على أسس سليمة تدعم قضية الشعب وحقوقه وبعيداً عن التدخلات والاشتراطات الخارجية التي تتمسك بها بعض الأطراف.

لكن وبالرغم من الحديث المتكرر والمتواصل عن قرب تحقيق المصالحة المنشودة، وإصرار الأطراف المختلفة على أنها خيار إستراتيجي وأولوية لا حياد عنها، إلا أن تحقيق المصالحة الفلسطينية الفلسطينية هو اليوم أبعد ما يكون، بل لا نبالغ إن قلنا أن التنافر والتباعد بين الأطراف الفلسطينية يزداد ويتعمق، فيما تتسع الهوة بينها مع اشتداد التصريحات والحملات الإعلامية، والتي تعدت الأطراف الفلسطينية لتشمل أطرافاً أخرى أضحت بدورها طرفاً مباشراً كالدور المصري غير المحايد أو النزيه، والذي بات يقف عائقاً حقيقياً في وجه المصالحة.

في خضم تلك التفاعلات تتباين المواقف، وتختلف حسابات كل طرف ومواقفه، لكنها جميعاً لا تصب في اتجاه المصالحة، بل يتغير مؤشر المصالحة إن جاز التعبير صعوداً وهبوطاً بحسب الأحداث والتطورات السياسية، تزداد وتيرة الحديث عنها –إعلاميا على الأقل– وعن قرب تحقيقيها للخروج من مآزق سياسية بعينها، كما حدث عقب فضيحة تقرير غولدستون ومسارعة محمود عباس لقبول الورقة المصرية لتفادي مطالب التنحي والاستقالة التي صدرت من الجميع دون استثناء، وكما حدث مؤخراً بعد مجزرة أسطول الحرية التي ارتكبها الاحتلال، وعودة الحديث عن ضرورة توقيع الورقة المصرية لمواجهة الاحتلال، رغم استمرار التنسيق الأمني والتفاوض معه، ولحصاد ما يمكن حصاده بعد تعاظم الدعم الدولي للقضية الفلسطينية، ورفض الحصار الظالم التي تشارك فيه أطراف فلسطينية، تطالب في ذات الوقت بتحقيق المصالحة.

لا يشكل ما سبق نظرة تشاؤمية أو سوداوية، لكنه قراءة لواقع محزن أحياناً، مخجل في أحيان أخرى، بل مخز في محطات معينة، تتضح معالمه عند الوقوف على مواقف الأطراف المختلفة، وتحديد أين تقف من ملف المصالحة، ودورها على الأرض فعلاً لا قولاً.وهما في المحصلة طرف واحد يعمل لذات الأهداف وبذات الدوافع، والحديث هنا عن جزء من حركة فتح ينحسر نفوذه تدريجياً عبر سلسلة من الانتكاسات والتنازلات التي ترفضها باقي الأطراف في فتح، وكذلك عن شخص سلام فياض الذي يتحرك وكأنه في كوكب آخر، كأنه في دولة مستقلة ذات سيادة كل همها دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية عبر المسخن والمنسف والكنافة، وكأن لسان حاله يقول دولة تحت شعار البطن و"الكفكيرة".

تتحدث فتح والسلطة عن المصالحة بحميمية، وحرص إعلامي واضح، لكنها في ذات الوقت تتمسك بشروطها المعلنة من توقيع الورقة المصرية، والاعتراف بشروط الرباعية، وغيرها من الشروط المعروفة، وبات ملف المصالحة ورقة تستغلها لتحقيق مكاسب آنية، إعلامية بالدرجة الأولى، إضافة لتسجيل نقاط سياسية من باب المناكفات، ويتركز موقف السلطة وفتح في التالي:

• الإصرار على الورقة المصرية وتوقيعها رغم الرفض الواضح لها من قبل حركة حماس.

• استمرار الإجراءات القمعية على الأرض من اعتقالات وإغلاق للمؤسسات وملاحقة الصحفيين والإعلاميين وغيرها، والتي بالتأكيد لا تصب في اتجاه بوادر حسن النية لتلطيف الأجواء على الأقل.

• التمسك بالتنسيق الأمني مع الاحتلال وما يعنيه من تجريم وملاحقة للمقاومة، وكذلك التمسك بالمفاوضات مع اختلاف مسمياتها مباشرة أو غير مباشرة، بالرغم من إجراءات الاحتلال وجرائمه.

• صراعات داخلية قوية تسببت مؤخراً في فشل آخر طال هذه المرة قوائم المرشحين للانتخابات البلدية، حيث فشلت فتح التي يقودها عباس في تشكيل قوائم انتخابية لخوض انتخابات دعت لها فتح، مما أدى لتأجيل تلك الانتخابات، واستقالة أعضاء لهم ثقلهم من فتح كان آخرهم الشكعة عضو تنفيذية المنظمة وباقي قائمته.

• الصراعات امتدت للساحات الخارجية في البلاد العربية والغربية بين تيارات تتصارع للسيطرة على أجنحة فتح، ورفض لإجراءات الهيمنة على القرار الفتحاوي.

• احتكار الشرعية المزعومة والمطالبة بعودتها لقطاع غزة، رغم أن القوانين التي وضعتها فتح نفسها وعلى مقاسها إبان فترة عرفات تعني وببساطة بطلان أي شرعية لعباس أو فياض.

• فقدان القرار السيادي والرضوخ لمطالب الاحتلال، والتراجع عن شروط سبق وأن ورطت السلطة نفسها فيها، من وقف للاستيطان ومرجعية العملية السلمية، لتعود السلطة لطاولة المفاوضات دون تحقيق أي من الشروط.

• التعامل مع سلسلة من الفضائح المتتالية من تقرير غولدستون، إلى الإقرار بما أسماه عباس حق الشعب اليهودي في إسرائيل، وعدم القدرة على الرد على تصريحات ليبرمان المتكررة حول طلب عباس شخصياً الاستمرار في العدوان على غزة حتى إسقاط حكومتها.
الطرف الآخر الرئيسي في معادلة المصالحة، والتي تعلن بدورها أيضاً أن المصالحة حتمية وضرورية، لكنها في الوقت نفسه تعلن أن التوقيع على الورقة المصرية دون الأخذ بملاحظاتها أمر غير وارد، لأن في ذلك تدجينا سياسيا لها وقبولا بهيمنة الطرف الآخر، ورضوخا لشروط الرباعية، وبالتالي لا يمكن أن تكون أساساً لمصالحة حقيقية، وقد أعطت مواقف حماس الأخيرة إشارات واضحة بأنها لا تستعجل تلك المصالحة، خاصة بعد الخروقات السياسية التي حققتها، وصمودها أمام الضغوطات، وبرصد مواقف حماس اليوم نجدها كالتالي:

• التعامل مع الوضع القائم في غزة وكأنه واقع دائم، على سبيل المثال توزيع الأراضي، ومنح التراخيص، وتوظيف وتعيين، وهي أمور من الصعب تغييرها مستقبلاً.

• تخطيط مستقبلي لقطاع غزة مع رزمة مشاريع وهيكلية إدارية جديدة.

• التمسك بالموقف القائل إن أية إصلاحات يجب أن تشمل الضفة الغربية مع قطاع غزة، خاصة الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية التابعة فعلياً وبحسب حماس للجنرال الأميركي كيث دايتون.

• التركيز الإعلامي خاصة من مؤسسات محسوبة على أطراف أخرى على ممارسات وأخطاء ميدانية لحماس، لم يكن هناك مبرر لبعضها من حيث التوقيت أو الإجراء أو غيرها.

• اشتباك سياسي إعلامي متواصل مع ادعاءات الاحتلال، وكذلك سلطة رام الله.

• رفض أي انتخابات كانت بلدية أو رئاسية أو تشريعية إلا بعد تحقيق المصالحة، وبفترة زمنية معقولة تضمن التطبيق الفعلي لها، وتنهي الإقصاء القائم في الضفة الغربية.

• التعامل بردات الفعل، أو ما تعتبره حركة حماس التعامل بالمثل، خاصة عند اعتقال قيادييها في الضفة الغربية واللجوء لاعتقال قيادات فتحاوية كوسيلة ضغط، نجحت حتى اللحظة في تحقيق المطلوب منها.

• تزايد التعاطف الجماهيري حول العالم مع قطاع غزة ورفض الحصار الظالم، وهو ما يعني أن عامل الوقت كفيل بكسر هذا الحصار، رغم معارضة أطراف فلسطينية وعربية لهذا التوجه.
ومرة أخرى نجد أنفسنا مضطرين للتأكيد والتكرار أن النظام المصري في مواقفه لا يمثل توجه الشعب المصري الداعم بالكامل للقضية الفلسطينية وشعبها، هذه المواقف الرسمية تشكل اليوم عقبة وعائقا أساسيا وفعليا أمام تحقيق المصالحة الفلسطينية، مما يعني تحول النظام المصري إلى طرف وخصم مباشر، بدلاً من القيام بدور الوسيط المحايد والنزيه، واعتماد سياسة التعنت والتشدد غير المبرر، ومحاولة الضغط في اتجاه ترفضه الغالبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، ويمكن حصر أهم تلك المواقف الرسمية المصرية في النقاط التالية:

• التعامل مع الملف الفلسطيني باعتباره ملفاً أمنياً لا سياسيا من خلال جهاز المخابرات العامة لا الخارجية المصرية.

• رفض أي تعديل على الورقة المصرية حتى وإن توافقت الأطراف الفلسطينية على ذلك، وهو ما يكشف حقيقة الدور المصري.

• الضغط المتواصل على قطاع غزة من خلال إغلاق المعبر وفتحه مزاجياً، وهو ما تعتبره الجهات الدولية مشاركة مباشرة في الحصار المفروض على قطاع غزة.

• التدخل المباشر والسافر في الشأن الفلسطيني ومنح الشرعية لطرف دون آخر، ورفض نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.

• التخبط التام في تبرير إغلاق المعبر وفرض الحصار على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، والحديث اليوم على أن المصالحة الفلسطينية حتى لو تحققت، لا تعني فتح المعبر بصورة كاملة كما صرح رئيس الوزراء المصري مؤخراً.

• رفض أي تحرك دولي لتخفيف أو رفع الحصار عن غزة، حتى وإن لم تكن مصر طرفاً فيه، كرفض الممر البحري مثلاً.

• الخشية من فقدان النفوذ المصري في المنطقة، حيث يشكل رفع الحصار عن غزة فقدان مصر ورقة المصالحة، وهي الورقة الأخيرة لمصر بعد أن فقدت دورها الإقليمي بالكامل حتى فيما يتعلق بأمنها المباشر مثل قضية دارفور ومياه النيل.

• الاستمرار بحملات التشويه الإعلامي المنظم ومن خلال الصحف والبرامج الموالية والتابعة، في محاولة لتكريه المواطن المصري لكل ما هو فلسطيني، ومن خلال سياسة "شيطنة" معتمدة وواضحة.

• لفت الأنظار عن المشاكل الداخلة المتفاقمة من إهانة للمواطن وخرق حقوقه وأزمات اقتصادية، إضافة لملف التوريث وغيرها من الأمور التي يتم التغطية عليها بخلق عدو وخطر وهمي قادم من غزة.

أما باقي الأطراف الدولية ورغم الدعم الرسمي للاحتلال وتشكيل منظومة حماية له ضد أي عقوبات، إلا أن الموقف الدولي وبعد مجزرة أسطول الحرية يشهد تغييراً في اتجاه التعامل الإيجابي مع الوضع في قطاع غزة ومع حركة حماس، يضاف إلى حراك جماهيري عبر العالم داعم للمقاومة ورافض لسياسات وإفرازات أوسلو، وفي ظل غياب أي موقف عربي حقيقي للتعامل مع الأحداث، ودخول تركيا وبقوة على الخط، وكلها مواقف تؤثر في ملف المصالحة، سلباً أو إيجاباً.
مع تمسك الجميع بالمصالحة من خلال منظوره الخاص، ومع التباعد المستمر في المواقف، إلا أن المصالحة يمكن تحقيقها، لكن ضمن محددات جديدة تتعامل مع المتغيرات وموازين القوى الداخلية والخارجية، مع تحديد للمرجعيات والتفكير في بديل عملي للسلطة الفاقدة للقرار والتي تشكل اليوم عبئا حقيقياً على الشعب الفلسطيني، ومراجعة شاملة لإستراتيجية المواجهة مع الاحتلال.

مما تتطلبه المصالحة أيضاً تغيير عقلية الإقصاء وما تمثله من استفراد بالشرعية المزعومة والقرار الفلسطيني، والتعامل بحساسية مع ملفات شائكة لا مفر من تناولها، وتغليب المصلحة الوطنية على المصالح الفردية والحزبية، وما يعنيه ذلك من إبعاد وعزل العناصر التوتيرية المعروفة والمسببة للوضع الحالي، واتخاذ مبادرات حسن نية أولها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.

وبعد الوصول لما سبق من خطوات تمهيدية، وبعد الاتفاق على بنود المصالحة –إن تمت– وعلى قاعدة رفض الاحتلال ومقاومته، ورفض منحه أي شرعية على أرض فلسطين، والتسليم بفشل مشروع التسوية وعبثية المفاوضات، والاعتراف بالأخطاء السابقة، بعد كل ذلك لا بد لأية مصالحة أن تشمل آليات تنفيذية واضحة وبسقف زمني محدد، بعيداً عن التدخلات و"الفيتو" من أي طرف، مع رعاية ضامنة غير منحازة ونزيهة –لا تنطبق على النظام المصري حالياً– والتعامل مع كافة الملفات كرزمة واحدة.

ما زالت المصالحة الفلسطينية بعيدة المنال، رغم إمكانية تحقيقها، ولو نظرياً على الأقل.