لا زلنا نسمع أصداء المطالبة بضرورة صياغة رؤيا مستقبلية للمجتمع العربي في البلاد والتي ظهرت بصورة كثيفة في أعقاب مظاهر الاحتجاج (هبة القدس والأقصى) في أكتوبر 2000. واعتقد أنَّ هذه المطالبة تظهر بفعل الافتراض أنه في ظلّ غياب مثل هذه الرؤيا سنبقى نتخبّط وتائهين في ضياع تامّ لا نعرف وجهتنا ونستسلم للواقع الكولونيالي الذي نعيش بين ظهرانيه ويفرضه الطرف الآخر علينا.

 

وتجدر الإشارة إلى أنَّ الذات المقهورة نتاج هذا الواقع الكولونيالي تتميّز باستحضارها الدائم للطرف الآخر القاهر وقوة الاحتلال في جميع محاولتها لصياغة ذاتها وبلورة رؤيتها. من هنا فإنها أسيرة هذا الطرف حتّى حين تسعى إلى الاستقلال والتخلّص منه. فإن كنّا غير قادرين على صياغة أحلامنا وطموحاتنا في الحياة فلن نستطيع إدارة حيواتنا وأُسَرنا وكم بالحري إدارة مؤسّسة. وبفعل حقيقة أنَّ المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر لا يقوى على التأثير على عملية صنع القرار السياسي في إسرائيل، فقد اختار هو، أو اختارت له بعض الأطراف، الشروع بصياغة رؤيا مستقبلية له يشير من خلالها إلى أهم النقاط التي تعبّر عنه وعن أحلامه وتصون حقوقه الفردية والجمعية وتضمن مستقبله لعقود قادمة. ولكن الرؤيا ليست مجرّد حقوق فردية أو جمعية وإنما هي بالدرجة الأولى الحلم المشترك الذي يجمع أفراد المجتمع كافة، وليس أي حلم مشترك وإنما هو حلم مشترك منعتق من الإطار والواقع الكولونيالي وينجح بتواصله مع ذاته المتحرّرة.

 

ولكن، نقطة الضعف الرئيسة الأولى التي واجهتها القوى والحركات الثورية في العالم ولا تزال تواجهها قيادات الشعب الفلسطيني والمجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر تكمن في طرح مطالبها أو رؤيتها من خلال معادلة تضادية، بمعنى أنَّ هذه الرؤيا والمطالب مُوجّهة إلى أو ضدّ قوات الاحتلال (أو إلى أو ضدّ الدولة)، ومن هنا التركيز على الاستقلال والسيادة والحكم الذاتي إقليميًا أو ثقافيًا بوصفه هدفًا لا أداة. إذ أنه يتعيّن النظر إلى الاستقلال والسيادة والحكم الذاتي بوصفها آليات لتحقيق هذه الرؤى وليست بأي حال من الأحوال هدفًا بذاته. وحين نتصوّر أنَّ الاستقلال هو الهدف بعينه، يظهر التساؤل:  ماذا بشأن مرحلة ما بعد الاستقلال ونيل الحكم الذاتي؟ وهل جميع التضحيات التي يقدمها الشعب هي من أجل استبدال قوى الاحتلال الإسرائيلية أو الأمريكية بقوى احتلال أخرى، أو قوى قمعية فلسطينية أو عربية؟ ففي جميع الحالات العربية التي شهدناها في القرن العشرين ولا زلنا هي من هذا الطراز وتسلك هذا المسلك. ويكمن السبب الأساس في تحويل الاستقلال أو السيادة أو الحكم الذاتي إلى هدف بعينه. ولنفترض أننا حصلنا على حكم ذاتي ثقافي أو إقليمي، ما هي المعايير والقيم التي يتعيّن أن تقوم في صلب نظام الحكم وإدارته. ما هي القيم التي نرغب في توريثها إلى الجيل الشاب في جهاز التربية والتعليم. كذلك ومن شروط هذا الانعتاق من الشرك الكولونيالي هو طرح بدائل أخرى عن الدولة القومية التي بذاتها نتاجًا لحقبة كولونيالية.

 

أما نقطة الضعف الرئيسة الثانية فتكمن في حقيقة أنَّ الدولة أو قوى الاحتلال على إطلاع كبير بجميع أساليب تفكيرنا وطروحاتنا السياسية والإمكانيات المتاحة أمامنا، لذا فهي تقوم بالتلاعب بالسيرورات ووضع المتغيرات المشاركة في المعادلة وحيثيات الوضع القائم لتوجيه الفئات أو قيادات الشعب لخيارات محدّدة تخدم مصالحها، وذلك لأنَّ متغيرات الوضع القائم من أهم أسس المنهج "العقلاني الواقعي"، وبهذا يتحوّل هذا المنهج إلى شرك لاقتناص مشروع الفئات المستضعفة وتمثّل لعنة عليها. وقد تحوّل هذا المنهج، وبصورة خاصة في الحالة الفلسطينية، إلى مرض عضال سياسي تعاني منه كافّة القوى والحركات السياسية الفاعلة لأنها تنطلق من الذات المقهورة والواقع الكولونيالي.

 

أما السبب الآخر، إضافة إلى هذا المنهج، فيكمن في أنَّ هذه القيادات والحركات تسعى إلى تحقيق مشاريعها السياسية الآن، ربما قبل أن يموت القائد أو الزعيم وذلك لضمان جنيها ثمار نضالها، تلك الثمار التي تتجسّد بالرواتب والمناصب والرتب العسكرية والمكانة الاجتماعية والشعبية. لذلك تقوم بتقديم التنازل الأهم ألا وهو استبدال الرؤيا بالاستقلال أو الحكم الذاتي وتصويره على أنه هدف قائم بذاته، وذلك للتهرّب من ضرورة صياغة الحلم الجمعي المنطلق من الذات المتحرّرة أولاً، وجني الثمار الآن عبر المشاركة في قواعد اللعبة (المنهج "العقلاني الواقعي") التي رسمتها لها قوى الاحتلال أو الدولة.

 

لو راجعنا كتب التاريخ الحديث فلن نعثر على حركة ثورية أو سياسية واحدة نالت الاستقلال وحقّقت مطالب وطموحات شعوبها أو الفئات التي تمثلها إلاّ وانطلقت أساسًا وبداية من رؤيتها الذاتية بمعزل عن جبروت أو إرادة قوى الاحتلال أو الطرف الآخر المقابل أو محدوديات الواقع القائم. هذه هي حالة الحركة الصهيونية أيضًا.فلطالما نسمع "التذمّر" العربي والفلسطيني من حقيقة أنَّ الأيديولوجيا الصهيونية تجاهلت حقيقة وجود الفلسطينيّين في البلاد حين رسمت أهدافها. ويغفل هؤلاء المتذمّرون عن حقيقة أنه بغية صياغة الحلم المنعتق كان يجب على الأيديولوجيا الصهيونية أن تحرّر الذات اليهودية" المقهورة" بداية وتنطلق من الرؤيا والطموحات الجامعة لأبناء وبنات "الشعب اليهودي" بالأساس. إذ إنَّ وجود أو عدم وجود الفلسطينيّين لا يغيّر من الأمر شيئًا من منظور الرؤيا الصهيونية وبحقّ. ولكن يكمن الخطأ الجسيم الذي اقترفته هو الاستمرار بتجاهلها حين انتقلت إلى المرحلة الثانية، أعني مرحلة وضع المشاريع لتحقيق هذه الرؤيا، إذ تجاهلت الوضع القائم لا بل وحاولت صياغة هذا الواقع من جديد وفرضه على العالم من خلال سياسة الأمر الواقع. هذه هي ورطتها الأساس. وليست صدفة أن لا تستحضرني أي تجربة من العالم الثالث، ولا حتّى التجربة الإيرلندية أو الكوبية أو بلدان أمريكا اللاتينية، لأنَّ غالبيتها إن لم تكن جميعها قد أخفقت حين انطلقت من تلك الذات المقهورة ولعبت لعبة قوى الاحتلال أساسًا حتّى في تلك الحالات التي تبدو غير ذلك، كحالة الهند وفيتنام وليبيا والجزائر ومصر.

 

من هنا فالدرس الأساس الذي ينبغي أن نخرج به من نتائج مظاهر الاحتجاج العارمة في أكتوبر 2000 هو الافتراض أننا منغمسون في واقع كولونيالي شارك بتشكيل مختلف مناحي حيواتنا، وأنَّ دولة إسرائيل ليست دولتنا ولم تقم لتحقيق "رؤيتنا"  ومن بين جملة الأسباب نذكر أننا على الأرجح لا نحمل مثل هذه الرؤيا بالمقام الأول، كما أن الصهيونية غير موجّهة ضدّنا لأنها تتجاهلنا أصلاً، وأنها لا تمثّل أي أحد منّا، ولم ولن تسعى إلى تحقيق أهدافنا الجمعية لأنها حين تفعل ذلك تتحوّل فورًا إلى حركة أخرى غير الحركة الصهيونية.

 

أما الحقوق المدنية المتدنية التي ننالها فهي بفضل الضرائب التي ندفعها وليست منّة من طرف الدولة أو الحركة الصهيونية، والحقوق الجمعية والجماعية التي نطالب بها إنما هي نابعة بداية من كوننا أبناء وبنات هذا المكان خلافًا للمهاجرين اليهود الذين استولوا عليه، ولكون الدولة ليست دولتنا. ومنطقيًا، يبدو أنَّ السبيل الأكثر ملاءمة للمطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية هو التوقّف عن دفع الضرائب.

 

لا تتصادم هذه المقولة مع مساعي التوصّل إلى تسوية سياسية معقولة مع إسرائيل.ولا يخفى على أحد أنَّ موازين القوى مختلّة لصالح الحركة الصهيونية، ولكن السلاح الأكثر فاعلية بأيدي الحركات الفلسطينية والعربية هو سلاح قوّة الحقّ والبعد الأخلاقي أولاً، والشرعية (التطبيع) ثانيا. فعلى الرغم من جميع نجاحات الحركة الصهيونية إلاّ أنها لم تنجح في نيل الشرعية لوجود دولة إسرائيل، أي تطبيع وجودها، من طرف المحيط العربي ولا حتّى من مواطنيها العرب. فإننا كجماهير وقيادات نتعامل مع إسرائيل بوصفها حقيقة قائمة، ولكن ذلك بعيدًا كل البعد عن منحها الشرعية والنظر إليها كجسم طبيعي في هذه المنطقة من العالم. فحتّى المتعاونين منّا مع أجهزة الأمن الإسرائيلية يتعاملون مع إسرائيل من هذا المنطلق.

 

وللإيجاز أقول إنه يتعيّن على القيادات والجماهير العربية والفلسطينية بلورة وصياغة الأحلام الذاتية الأصيلة لجماهيرها أولاً، المنعتقة من قيود الواقع الكولونيالي القائم، ومن ثمّ فقط بحث مسألة التسوية أو المصالحة مع المجتمع الإسرائيلي، الأمر الذي يتطلّب التفكير بصورة واقعية أكثر وأخذ الطرف الآخر بالحسبان. ولكن الخوف من مواجهة أنفسنا وصياغة أحلامنا الذاتية المتحرّرة من سطوة الطرف الآخر بالدرجة الأولى والفجوة التي تفصل بين أحلامنا وطموحاتنا ورؤيتنا وبين "قدرة تحمّل" إسرائيل والحركة الصهيونية تبقينا خاملين منصاعين إلى المعادلات "العقلانية الواقعية" التي تفرضها إسرائيل والواقع الكولونيالي.

 

وقد سنحت الفرصة أمام بعض النخب والقيادات العربية داخل الخط الأخضر قبل بضع سنوات لوضع رؤيتها المستقبلية إلاّ أنَّ طيف الحاكم العسكري الإسرائيلي، أعني الذات الكولونيالية المقهورة، والمنهج "العقلاني الواقعي" خيّما وهيمنا على جميع اجتماعاتها الأمر الذي قوّض وأفرغ العديد من مداولاتها واستخلاصاتها من المضامين الحقيقية الأصيلة. ولبلوغ المنشود يتعيّن تجاهل الوضع القائم والطرف الآخر من رؤيتنا لذاتنا ولأحلامنا وأهدافنا في الحياة وبعد صياغتها فقط يمكن البحث عن السبل للتجسير بينها وبين الطرف الآخر.

 

بالطبع فإنَّ لكل واحد منّا مصالحه الضيقة واعتباراته، سخيفة كانت أم جليلة، ولكن القيادة الحقيقة تمتاز بترفّعها عن مثل هذه المصالح والاعتبارات وبجرأتها على التعامل مع الذات الجمعية الأصيلة المتحرّرة من الآخر والمستمدّة من الضمير والرؤيا الجمعية لجماهيرها وشعوبها وقدرتها على تحويلها إلى مشروع سياسي ينطلق من هذه الرؤيا.