مع استمرار الطابع الصراعي الموضوعي بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، ومع تصاعد وتيرة الممارسات القمعية لهذا الاحتلال في ظل حكومة نتنياهو ليبرمان، كأكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا وعنصرية. ومع انسداد الأفق أمام معالجة سياسية جادة للصراع مع هذه الحكومة، ذلك بإجماع كافة ألوان الطيف السياسي الفلسطيني، المؤيد منه والمعارض للمفاوضات الجارية، على أن هذه الحكومة ليست في وارد التعامل الجدي مع  "قضايا الوضع النهائي" للمفاوضات خارج شروطها التصفوية والتعجيزية، لا من حيث الهدف، ولا من حيث المرجعيات والأسس وجدول الأعمال والرعاية، ولا حتى من حيث توفير الحد الأدنى للمناخ المساعد واللازم لمجرد استمرار التفاوض.

 

 أمام هذا الحال الذي يذكِّر بالظرف السياسي الذي كان قائماً عشية اندلاع انتفاضة الأقصى في نهاية أيلول 2000، والمتمثل في عودة الاستعصاء السياسي إلى ما كان عليه قبل مؤتمر مدريد 1991، رغم قرابة عشر سنوات من التفاوض. وذلك بعد أن رفض الرئيس الفلسطيني المرحوم الشهيد ياسر عرفات، رغم خذلان الموقف الرسمي العربي، ومع كل ما مورس عليه من ضغوط أمريكية ظالمة، قبول التوقيع على صك استسلام ينهي جوهر القضية الفلسطينية، حيث فجر التعنت الإسرائيلي المدعوم أمريكيا، مفاوضات كامب ديفيد المفصلية في تموز 2000، التعنت الذي كشف ما أضمره الإسرائيليون من خلف موافقتهم على تقسيم المفاوضات إلى شقين، "انتقالي" و"نهائي"، في "اتفاق إعلان المبادئ"، (أوسلو) عام 1993. حيث تبين أنهم ما زالوا دون الاستعداد لقبول تسوية متوازنة، تلبي ولو الحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، على الأقل كما نصت عليها قرارات الشرعية الدولية. وأنهم بالموافقة على تقسيم قضايا المفاوضات إلى "انتقالي" و"نهائي، إنما كانوا يخططون لتصفية القضية الفلسطينية، وذلك عبر إحراز أحد أمرين:

1: إبرام اتفاق حول "قضايا الوضع النهائي" يكرس "المرحلة "الإنتقالية" في اتفاق أوسلو مع تحسينات طفيفة كحل نهائي للقضية الفلسطينية ينهي الصراع والمطالب الفلسطينية، بما يعني تصفية جوهر الحقوق الوطنية الفلسطينية بإقرار رسمي فلسطيني، ما لا يمكن لفلسطيني، مهما بلغت درجة واقعيته القبول به.

2: أو على الأقل تثبيت "المرحلة الإنتقالية" في اتفاق أوسلو مع تحسينات طفيفة كحل انتقالي طويل الأمد، الأمر الذي من شأنه دحر "قضايا الوضع النهائي"، أي جوهر القضية الفلسطينية، إلى أجل غير مسمى.

  

على خلفية ذاك الاستعصاء السياسي، وبسببه، توفر الشرط السياسي الموضوعي لتجدد الانتفاضة في الأراضي المحتلة عام 1967، بإسناد من باقي مواقع وجود الشعب الفلسطيني. وجاءت زيارة شارون الإستفزاية، والموافق عليها رسميا من حكومة باراك في حينه، لتكون بمثابة السبب المباشر الذي أشعل الشرارات الأولى لانتفاضة الأقصى في أيلول 2000، وكان رد الفعل العنيف والقاسي لجيش الاحتلال وأجهزته الأمنية في مواجهة التظاهرات السلمية، السبب الكامن وراء إشعال كامل السهل الفلسطيني، أي توسيع انتفاضة الأقصى، مدىً ووسائل ومظاهر.....

 

   واليوم، وبمناسبة مرور عشر سنوات على انتفاضة الأقصى 2000، وعلى مابين أيلول 2000 وأيلول 2010 من تشابه وتفارق، ومع استمرار الطابع الصراعي الموضوعي، وانسداد أية آفاق لمعالجة سياسية جادة للصراع مع حكومة نتنياهو، أي مع توفر الشرط السياسي الموضوعي لتجدد الانتفاضة، يدور جدل، سياسي منظم وشعبي فلسطيني، يكثفه سؤال: هل نحن أمام انتفاضة فلسطينية ثالثة؟؟؟

 

 أعتقد أنه، ورغم التشابه الكامل بين أيلول 2000 وأيلول 2010، من حيث توفر الشرط السياسي الموضوعي لتجدد حالة الانتفاضة في أوساط الشعب الفلسطيني، ورغم صعوبة، حتى لا نقول استحالة، التنبؤ الدقيق بمتى وبسبب أي حادث يمكن للاشتباكات المحدودة بين الفلسطينيين وقوات الاحتلال أن تتحول إلى فعل انتفاضي واسع ومتصل، بصرف النظر عن طابعه الناظم ووسائله. فحتى انتفاضتا كانون أول 1987، وأيلول 2000، فإن أحدا لم يتنبأ، ولم يكن بمقدوره أن يتنبأ، بالحدث المحدد والزمن المحدد لاندلاعهما. أقول، برغم هذا وذاك، إلا أنني أعتقد أن الحالة الفلسطينية من زاوية شرطها الذاتي، بالمعنى الشامل للكلمة، ليست مهيأة لتوسيع أية اشتباكات محدودة مع قوات الاحتلال، وتحويلها إلى حالة انتفاضية متصلة شاملة، من حيث المدى والوسائل والمظاهر والسعة، سواء كما كان عليه الحال في الانتفاضة الشعبية الأولى عام 1987، أو كما كان عليه الحال في الانتفاضة الثانية عام 2000. وذلك لسبب جوهري أساسي، يتمثل، عدا عن أسباب أخرى، في:

 

إن الانقسام الداخلي، لم يعد كما كان عليه الحال إبان الانتفاضتين المباركتين، أي مجرد خلاف سياسي، وعدم انتظام حركتي "حماس" و"الجهاد" في  منظمة التحرير كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، الخلاف الذي جرت معالجته بإيجاد صيغة تنسيقية للفعل الانتفاضي، رغم ما سببه ذلك من إرباكات، أفضى إليها تباين الأجندات في توجيه وضبط وقيادة ونظم واستثمار الفعل الانتفاضي على الأرض. بلى، لم يعد الخلاف كما كان خلال الانتفاضتين، على سوئه، بعد أن تحول منذ الحسم الحمساوي السياسي "للسلطة" في غزة بوسائل عسكرية في حزيران 2007 إلى انقسام عمودي سياسي وجغرافي حاد، أفضى إلى نشوء "سلطتين" تنفيذيتين تشريعيتين أمنيتين. وبصراحة لم يعد الصراع الفلسطيني الداخلي منذ ذاك التطور النوعي، وما ترتب عليه من تداعيات ونتائج كارثية، مجرد تنافس ديمقراطي مشروع على "السلطة الانتقالية" التي أفرزها "اتفاق إعلان المبادئ"، بل انتقل إلى صراع مكشوف وصريح على تمثيل الشعب الفلسطيني، بما يضع علامات استفهام كبيرة على جدية القول باستعداد الجميع للشراكة السياسية القائمة على برنامج الحد الأدنى السياسي، الذي يوفر الانتظام في إطار منظمة التحرير الفلسطينية كإطار وطني جامع، هذا الحد الأدنى الذي جرى التوافق عليه في إعلان القاهرة آذار 2005، ووثيقة الوفاق الوطني (الأسرى) في حزيرن 2006.

  

عليه، فإنه، وبرغم توفر الشرط السياسي الموضوعي لتجدد حالة الانتفاضة في الواقع الفلسطيني، إلا أن الشرط الوطني الذاتي لتجددها هو ليس فقط غير مهيأ، بل بحاجة إلى مدى زمني غير قصير لإنضاجه وتهيئته. وأنه هو ذاته المدى الزمني اللازم لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية السياسية للشعب الفلسطيني، المهمة المركزية الموضوعية للفلسطينيين التي تعبث بمسار إنجازها الفعلي تداخلات إقليمية ودولية ثقيلة ومختلفة، ناهيك عن العمل الإسرائيلي المبرمج، وبكل الوسائل، لإدامة حالة الانقسام وتأبيدها وإطالة عمرها ما أمكن.

  

على كل ما تقدم يمكن الاستخلاص:

يمكن أن تزداد حالات الاشتباك المحدودة القائمة، سواء في الضفة أو غزة، غير أن الشرط الوطني الذاتي لتطويرها إلى فعاليات انتفاضية واسعة ومتصلة، غائب، واستعادته غير متوفرة في المدى المنظور، اللهم إلا إذا كان بلا دلالة، وبدون مغزى سياسي، عدم تطور فعاليات الضفة المساندة لغزة فترة الحرب عليها نهاية 2008 إلى حالة انتفاضية واسعة ومتصلة. وكذا، اللهم إلا إذا كان بلا دلالة، وبدون مغزى سياسي، عدم اشتعال غزة المضبوطة بقرار التهدئة من طرف واحد، رغم سعار سياسة الاستيطان والتهويد والتدمير والتمزيق والقتل والاعتقال في الضفة. وبالتأكيد، فإن مركز القرار السياسي والعسكري الإسرائيلي، يعي جيدا الدلالات السياسية لراهن الحالة الفلسطينية، ما يمنعه، وفي أقله يجعله يعد للعشرة، قبل الإقدام على توتير عسكري ميداني واسع وقاسٍ، شبيه بما فعله في مواجهة الاحتجاجات السلمية بعد زيارة شارون لباحات الأقصى في أيلول 2000، لأن ذلك ينطوي على احتمال قلب معادلة سياسية مريحة له، ويسعى لإدامتها، وإن كان يعد نفسه لكافة الاحتمالات والسيناريوهات، كما صرح بذلك رئيس أركان الجيش الإسرائيلي بعد اجتماع للجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي.