صدرت مؤخرًا ترجمة عبرية منقحة ومزيدة عن الانجليزية لكتاب "الجدار الحديدي- إسرائيل والعالم العربي" لمؤلفه آفي شلايم، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة "أوكسفورد" البريطانية (*). وفي الأصل صدر الكتاب بالانجليزية في سنة (2000) عن منشورات "نورتون" في نيويورك ولندن.

لا شكّ، بادئ ذي بدء، أن عنوان الكتاب يشفّ عن محتواه. غير أن الفصل الأشدّ إثارة للاهتمام هو ذلك الذي يتحدث بصورة رئيسة عن أصول سياسة "الجدار الحديدي" في الممارسة الصهيونية، والتي أصبحت لاحقًا سياسة رسمية لدولة إسرائيل حيال العرب عمومًا وحيال الشعب العربي الفلسطيني خصوصًا، بعد نشوئها في 1948.
والإشارات إلى تلك الأصول، التي يبثها شلايم، هي من الصفاء والصراحة والحدّة بما لا نحتاج معها إلى عناء القراءة التفكيكية.
منذ البداية يتتبع شلايم جذور فكرة التجاهل أو التغييب أو الإقصاء للسكان الأصليين في التفكير الصهيوني، منذ أن هجس ثيودور هرتسل بمشروع "دولة اليهود". ويؤكد في هذا الصدد ما سبق أن أشار إليه غيره من الباحثين وهو أن آباء الصهيونية، وبكل بساطة، لم يروا السكان الأصليين بصورة عامدة وعن وعي كامل، وذلك من منطلق الإدراك (الاستشرافي؟) لما سيترتب على تنفيذ مشروع إنشاء الدولة المذكورة من جرائم بحقّ هؤلاء السكان، لعلّ أشدّها وأدهاها جريمة التطهير العرقي.

وهذا ما تثبته، ضمن أشياء عديدة أخرى، الواقعة التالية:
بعد المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في سنة 1897 في بازل في سويسرا، قرر حاخام العاصمة النمساوية فيينا أن يستقصي أفكار هرتسل المبثوثة في كتابه "دولة اليهود"، فأرسل مندوبين عنه إلى فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ"تقصي الحقائق". وقد وجه هذان المندوبان برقية من فلسطين يقولان فيها: "العروس (أي فلسطين) جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر".
عن هذه البرقية يقول شلايم إنها تضمنت "المشكلة" التي ستتعارك معها الحركة الصهيونية منذ البدء. وهذه المشكلة هي، بطبيعة الحال "السكان العرب الذين يعيشون على الأرض التي أرادها اليهود".
ويضيف: كان "الرأي الناتج عن ذلك أن الحركة الصهيونية، باستثناء مجموعات صغيرة هامشية، فضلّت أن تتجاهل العرب الموجودين في فلسطين الذين شكلوا ما سُمِّي لاحقًا بِـ: المسألة العربية".
نستطيع القول، إذًا، إن أصحاب مشروع إنشاء الدولة اليهودية الصهيونية في فلسطين كانوا مدركين تمامًا في لاوعيهم- إن لم يكن في وعيهم الكامل- أن مشروعهم هذا سيواجه، منذ البداية، "معضلة" السكان العرب. وبالتالي فإنهم أعدّوا نفسهم جيدًا لهذه المواجهة، التي أصبحت نتائجها الآن معروفةً.
من ناحية ثانية يعود شلايم، أيضًا، إلى أصول فكرة "التحالف الإستراتيجي" مع قوة عظمى خارجية. وهي الفكرة، التي تظهر قراءته لها أن هرتسل كان أول من أرساها وأن حاييم فايتسمان اقتفى أثر هرتسل في تطبيقها العملي بالنسبة لبريطانيا، التي كانت عظمى، مما أسفر عن صدور "وعد بلفور" المشؤوم في سنة 1917.
في حقيقة الأمر قامت هذه الفكرة على قاعدة "تحديد الخدمات" التي في مقدرة "الدولة اليهودية" أن تمنحها، عند قيامها، على "طبق من ذهب" لتلك القوة العظمى، بما يتسق مع المصالح الخارجية، الاستعمارية، لهذه الأخيرة.
وداخل كل ذلك يتوقف شلايم عند التحايلات والأحابيل التي التجأ إليها هرتسل في معرض إغواء القوى الخارجية لعقد تحالف دنس مع الحركة الصهيونية ذات الأهداف الكولونيالية. فيكتب في هذا الصدد ما يلي:
"عرض هرتسل في كل مناسبة من هذه اللقاءات (مع السلطان العثماني والبابا وملك إيطاليا والقيصر الألماني ومع جوزيف تشمبرلين، وزير المستعمرات البريطاني) مشروعه في طريقة أراد لها أن تجتذب المستمع: وعد السلطان برأس المال اليهودي، ألمح للقيصر بأن الأراضي اليهودية ستكون قاعدة أمامية لبرلين، عرض على تشمبرلين إمكانية تحويل الأراضي اليهودية إلى مستعمرة الإمبراطورية البريطانية. ورغم تبدّل الحجج، التي عرضها هرتسل، فقد بقي هدفه الرئيسي متمثلاً في الحصول على دعم القوى العظمى لجعل فلسطين مركزًا سياسيًا للشعب اليهودي".
من جميع ما تقدّم يتوصل شلايم إلى الاستنتاج الصحيح ومفاده أن الحركة الصهيونية، منذ بداية تشكلها تحت قيادة هرتسل، اتسمت بميزتين بارزتين أصبحت لهما أهمية أساسية ومستديمة في التاريخ اللاحق.
هاتان الميزتان هما:
عدم الاعتراف بكيان وطني فلسطيني، والبحث عن تحالف مع قوة عظمى خارج منطقة الشرق الأوسط.

وقد كان الالتفاف على الفلسطينيين هو نهج السياسة الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول فصاعدًا. وكان الافتراض غير المعلن لهرتسل وكل من تبعه هو أن الحركة الصهيونية سوف تحقق هدفها ليس من خلال التفاهم مع الفلسطينيين المحليين وإنما من خلال تحالف مع القوة العظمى المسيطرة في تلك الساحة. وقد أدى ضعف "الييشوف" ووضع المجتمع اليهودي في فلسطين قبل الاستقلال وتصاعد عداء الفلسطينيين إلى جعل الاعتماد على قوة عظمى عنصرًا مركزيًا في الإستراتيجية الصهيونية.

ولقد تغيرّت القوة العظمى المسيطرة في الشرق الأوسط مرّات عدّة خلال القرن العشرين: في البداية كانت الإمبراطورية العثمانية، وبعد الحرب العالمية الأولى أصبحت بريطانيا العظمى، وبعد الحرب العالمية الثانية كانت الولايات المتحدة تلك القوة العظمى. لكن ما بقي ثابتًا هو ذلك التشبث الصهيوني بالاستحواذ على دعم القوى العظمى في المعركة من أجل الحصول على دولة وتثبيتها.

وهذا "الدعم"، كما سبق أن ذكرنا، لم يكن من غير ثمن دفعته الدولة اليهودية طوال سنوات وجودها. وقد عبّر عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحاق شمير (هل تذكرونه؟) ذات مرة بقوله: ترى فينا الولايات المتحدة الأميركية حليفًا وذخرًا إستراتيجيًا!

تشمل الطبعة العبرية من "الجدار الحديدي" إضافة يتطرق فيها المؤلف، آفي شلايم، إلى مترتبات فترة إيهود باراك في رئاسة الحكومة الإسرائيلية (1999 - 2001). وكانت الطبعة الإنجليزية قد اعتبرت نتائج انتخابات 1999، التي أسفرت عن فوز باراك برئاسة الحكومة وإلحاقه هزيمة نكراء بخصمه الليكودي بنيامين نتنياهو، بمثابة زلزال بل وأكثر من ذلك اعتبرتها "بمنزلة شروق الشمس بعد ثلاث سنوات قاتمة ومريعة أمسك فيها بزمام السلطة في إسرائيل الأنصار المتطرفون لنهج الجدار الحديدي، الذين لم يغيروا ولم يجددوا البتة في مفهومهم لهذا المبدأ"، على حد تعبير المؤلف.

لكن شلايم في هذه الفقرة الإضافية يؤكد خيبة أمله، مثل إسرائيليين كثيرين غيره، من باراك الذي تميزت ولايته "ببعض الأنوار لكن أساسًا تميزت بالكثير من الظلال السوداء".
ويسلسل المؤلف أسباب إخفاق باراك في إنقاذ ما يعتبر أنها "عملية السلام" الإسرائيلية- الفلسطينية مما آلت إليه من تدهور على النحو التالي:
(*) أولاً- أن باراك كان وبقي ذا نزعة أمنية في أصله وماهيته، بمعنى أنه ينظر إلى العلاقات الخارجية من زاوية اعتباراته الأمنية. ويشير شلايم إلى أن باراك هو من ناحية مواقفه السياسية تهجين لحمامة وصقر.
(*) ثانيًا- أعطى باراك أفضلية واضحة لمسار المفاوضات مع سورية، على رغم أنه أكد ضرورة التوصل إلى السلام مع جميع جيران إسرائيل. ويرجع الكاتب ذلك إلى عدة أسباب، لعل أهمها في رأيه هو حاجته إلى سورية من أجل الوفاء بالوعد الذي قطعه على نفسه خلال حملته الانتخابية بسحب قوات الجيش الإسرائيلي من لبنان حتى تموز/ يوليو 2000. "وقد كان واضحًا أنه من غير موافقة دمشق لا تستطيع حكومة بيروت أن تعطي إسرائيل أية ضمانة بشأن الأمن في المنطقة الحدودية بعد انسحاب الجيش الإسرائيلي ووكيله- مرتزقته، جيش جنوب لبنان".
(*) ثالثًا- في المسار الفلسطيني سار باراك ببطء وتردد واضحين. وقد تطلب الأمر فترة عشرة أشهر لكسر الجمود الذي كرسته حكومة الليكود نتيجة عدم تطبيقها لاتفاق واي ريفر.

لكن شلايم يعتقد، إلى ذلك، أن مفاوضات "كامب ديفيد" 2000 رغم أنها لم تسفر عن تسوية نهائية، شكلت اختراقًا ما. والدافع الرئيسي لاعتقاده هذا، وفقما يؤكد، هو جهوزية باراك لاجتياز خطوطه الحمراء والتباحث بصورة جدية حول جميع القضايا الواقفة في صلب النزاع، وهي حقوق اللاجئين الفلسطينيين وإخلاء المستوطنات في قطاع غزة والضفة الغربية وتقاسم السيادة على القدس.
وتنتهي إضافة الطبعة العبرية عند قراءة فترة حكومة أريئيل شارون الأولى (2001 – 2003) وعند نتائج انتخابات 2003، التي أعادت شارون إلى كرسي رئاسة الوزراء مع حكومة "أكثر يمينية في سنتها الأولى".

وفي الإجمال العام يرى شلايم أن عقد السنوات الممتد بين 1993- 2003 كان حافلاً بالأحداث المتعلقة بتاريخ العلاقات الإسرائيلية- الفلسطينية. فخلال هذا العقد ولدت وسقطت عملية السلام المنطلقة من اتفاق أوسلو. ويصف منتقدو أوسلو هذا الاتفاق بأنه معتلّ ومحكوم بالفشل المسبق. لكن رغم عيوبه ونواقصه فقد كان هذا الاتفاق، في قراءة المؤلف، خطوة شديدة الأهمية في الاتجاه الصحيح. وهو لم يكن محكومًا بالفشل المسبق، بل فشل لأن إسرائيل، بقيادة الليكود، لم تفِ بقسطها في الصفقة. وثمة أسباب إضافية كثيرة لفشل عملية أوسلو، تشكل عودة الفلسطينيين إلى العنف واحدًَا منها. لكن السبب الرئيسي والأول لهذا الفشل يكمن في سياسة إسرائيل التي نحت منحى الاستمرار في إقامة المستوطنات في الضفة الغربية. ويختم شلايم بالقول إن مصادرة المزيد والمزيد من أراضي العرب لصالح المستوطنين اليهود لا تتماشى مع الشراكة الجدية مع الفلسطينيين في سبيل إحلال السلام. وعلى هذا الأساس فإن إسرائيل لا تزال واقفة أمام المعضلة التي تراوح أمامها منذ 1967: في مقدورها أن تعيش مع مناطق محتلة، في مقدورها أن تعيش بسلام، إنما ليس في مقدورها أن تعيش مع الأمرين معًا.

عند هذا الحد ينبغي أن نشير إلى أن "الجدار الحديدي" هو الكتاب الثالث لآفي شلايم. وقد سبقه كتابان هما: "المؤامرة عبر الأردن" (1988) و"الحرب والسلام في الشرق الأوسط" (1995). وصدرت كتبه كافة باللغة الانجليزية وعن دور نشر أجنبية، قبل أن يصدر "الجدار الحديدي" باللغة العبرية.

ومثل كتب شلايم ثمة كتب عديدة لمؤرخين وعلماء اجتماع وباحثين إسرائيليين لا تزال، حتى هذه اللحظة، "تمارس" حقّها في البحث والسجالية، من خلال مواجهة الماضي الأشد ظلامية للحركة الصهيونية ولحكام إسرائيل، بلغات أجنبية فقط.

ودافعي للتنويه بهذا الأمر، الذي قد يتراءى للبعض عديم الأهمية، أنه يمثل على أحد جوانب الحرب المباشرة، من طرف المؤسسة الإسرائيلية والصهيونية، ضد الاجتهادات غير المفطورة على "الإجماع القومي الصهيوني" حول رواية تاريخ الصراع العربي- الإسرائيلي. وهو جانب عدم الالتفات إلى وجود هذه الاجتهادات سعيًا نحو غاية "القتل بالإهمال"!

وقد رأى كتاب شلايم الأول ("المؤامرة عبر الأردن") النور في موازاة صدور كتب أخرى لمؤرخين إسرائيليين آخرين مثل بيني موريس وإيلان بابه وعلماء اجتماع مثل جرشون شفير. وقد اعتبرت كتب هؤلاء الأربعة بمثابة القطاف الأول لموجة "التاريخ الإسرائيلي الجديد"، التي يقف وراءها تيار "المؤرخين الجدد" و"علماء الاجتماع الانتقاديين".

ورأى البعض أن يرجع هذا "التاريخ الجديد" إلى عاملين رئيسيين:
 الأول- ظهور رعيل جديد من المؤرخين الإسرائيليين لديه الجهوزية الكافية للتسليم بقسم كبير من الانتقادات الأخلاقية والسياسية التي وجهت إلى الصهيونية وإسرائيل في أعقاب 1967 (إثر احتلالها وممارسات عسكرها في المناطق الفلسطينية)، ما أدى بهذا الرعيل إلى أن يخضع للفحص الفترة التي سبقت سنة 1967 أيضًا.
 الثاني- إماطة اللثام عن وثائق من فترة 1948 كانت حتى ذلك التاريخ، النصف الثاني من الثمانينيات، في طيّ السرية التامة.

غير أن الخصيصة الأهم التي تميز شلايم، كما تميّز بابه وشفير وغيرهما من "المؤرخين الجدد" و"علماء الاجتماع الانتقاديين"، تتمثل في العودة إلى فحص أصول النزاع الصهيوني- الفلسطيني وجذوره. زد على ذلك أن المراجع الأرشيفية، التي يستعين بها هؤلاء في كتاباتهم، لم تكن جميعها من بين تلك التي أميط عنها اللثام في الفترة المذكورة. وإنما كانت، قبلاً، مفتوحة أمام مرمى بصر المؤرخين والباحثين.

وربما من المفيد أن نستعيد هنا ما قاله جرشون شفير في هذا الشأن عندما اعترف بأنه رغم كون المراجع المذكورة في متناول اليد، فإنها تطلبت منه "قراءة جديدة للمواد القديمة" في سيرورة يراد لها أن تعيد إلى هذه المراجع ما سبق أن غاب- أو جرى تغييبه عمدًا- عن أعين القراء الذين عاينوها قبلهم.
____________________________________________

(*) آفي شلايم: "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي"، إصدار: دار النشر "يديعوت أحرونوت"، تل أبيب 2005