كَثُرَ الجدل مؤخرا حول الأحداث الأخيرة في غزة والضفة الغربية المحتلتين، والتي ألقت بظلالها على مجمل الصورة الفلسطينية، والتي شهدت هي أيضا تشوهات عميقة لا يمكن إلا أن تحرك كل الفرقاء للعمل الجاد على معالجتها والتحرر من نتائجها المأساوية بالسرعة القصوى.

لا شك أن الأعراض الجانبية لأحداث غزة والضفة، رغم المرارة التي سببتها لكل مُحِبٍّ للشعب الفلسطيني ومخلص في خدمة قضيته، يجب ألا تدفع حركتي فتح وحماس وقيادتيهما الى مزيد من التشدد والتمترس من وراء مواقفهما، فهما مطالبتان فعلا وبكل صدق بأن تتساميا فوق الجراح والأوجاع، وأن تشرعا في حوار مسؤول ينقل الشعب الفلسطيني الى أجواء أكثر صحية، تأسيسا لمرحلة جديدة مثمرة تفتح أبواب الأمل وتُزيل حالة التصادم التي أدخلت الكثيرين إلى نفق مظلم من الإحباط واليأس.

لن ننسى أبدا أن الشعب الفلسطيني وفي إطار انتخابات ديمقراطية، حرة ونزيهة، قد قرر منح ثقته الكاملة وغير المنقوصة لحركة حماس التي حصلت على حصة الأسد في المجلس التشريعي وكذلك في البلديات والمجالس المحلية....

لن ننسى كذلك أنه كان من حق حماس ان تشكل الحكومة الفلسطينية وإدارة شؤون الشعب الفلسطيني بناء على برنامجها السياسي، والذي كان في صلبه القضاء على الفساد الذي استشرى في مؤسسات السلطة، وإنهاء حالة الإنفلات الأمني الذي تسبب في معاناة لا تطاق لشرائح واسعة من الفلسطينيين....

لن ننسى كذلك المشاهد التي دلَّت على أن حركة ( فتح ) وإن قبلت ظاهرا بنتائج الإنتخابات،والتي كلَّفَ بناء عليها الرئيس الفلسطيني السيد ابو مازن الأستاذ إسماعيل هنية بتشكيل الحكومة الجديدة، فإنها لم تُسَلِّم بهذه النتائج، وبَيَّتَ كثير من قياداتها السياسيين والعسكريين النِّيَّةَ على إفشال الحكومة الفلسطينية بعدما رفضوا الدخول مع حماس في حكومة وحدة وطنية.....

لن ننسى التهديدات التي صدرت بعد الإنتخابات مباشرة من بعض قيادات فتح، كالوزير السابق أبو على شاهين وغيره، ممن لم يُخفوا حقدهم على حماس واتهامهم لمن صوتوا لها بعدم الوعي كما جاء على لسان عزام الأحمد مؤخرا، إضافة إلى التمرد المعلن والخفي لقادة الأجهزة الأمنية في الضفة والقطاع على القيادة الشرعية ورفضها المتواصل التعاون معها كما ينص القانون، حتى أصبحت حكومة حماس ووزراؤها عاجزين عن تنفيذ أي قرار وفي أغلب الوزارات والأجهزة المدنية والأمنية... لقد تصرف قادة فتح وموظفوها الذين شكلوا أكثر من 90% من أجهزة السلطة، على أنهم دولة في داخل الدولة وحكومة في داخل الحكومة.... لقد كانت ازمة الصلاحيات والولاءات السكين الذي نحر في عنق الشرعية الفلسطينية، والذي مهد الى حد كبير الى ما آلت إليه الأمور.....

لن ننسى صبر حركة حماس على هذه الأجهزة وهذه القيادات التي عاثت في الأرض الفساد، والتي قدمت لجانٌ خاصة في المجلس التشريعي منذ سنوات طويلة وفي عهد المرحوم ياسر عرفات، وقبل دخول حماس، تقارير طالبت بمحاسبة ومحاكمة من سرقوا أموال الشعب وعرَّضوا أمنه وكرامته للخطر من مسؤولين في السلطة وعلى جميع المستويات، مشيرة بوضوح الى قائمة طويلة من الأسماء. إلا أن الوعود بتنفيذ هذه التوصيات ذهبت أدراج الرياح وأغلق الملف، بل ورُّقي كثير ممن وردت أسماؤهم في قوائم الفساد السوداء، وتقلدوا أرفع المناصب الرسمية والشعبية. لقد حاولت حكومة حماس العاشرة حل ازمة الفلتان الأمني وتمرد الأجهزة وتجاوزها حدود صلاحياتها بشكل سلمي، من خلال التوجه الى رمز الشرعية الفلسطينية ورئيس الدولة السيد ابو مازن بطلب التدخل الفوري لتصحيح الوضع وتطهير الأجهزة وبنائها على أسس وطنية مهنية بعيدا عن الفصائلية والفئوية، إلا أن شيئا من هذا لم يتحقق رغم وعود الرئيس المتكررة لتصحيح الوضع، مما جرَّأ بعض القيادات الأمنية الى التمرد العلني على الحكومة ووزراء داخليتها حتى في حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بموجب اتفاق مكة.....

نحن نصدق تماما كل ما جاء في تقارير حماس التي نشرت في وسائل الإعلام حول صور الفساد في الأجهزة الأمنية، وكذلك ما جاء في خطابات رئيس الوزراء الفلسطيني الأخيرة والتي وضعت الحقيقة كاملة امام الرأي العام بكل الموضوعية والشفافية،معترفا بما عليه اولا وبما له ثانيا، وداعيا الرئيس الفلسطيني الى الحوار والتخلي عن اتخاذ الإجراءات أحادية الجانب التي لن تساهم في ضبط الأوضاع الفلسطينية، بل ستعود بهذا الوضع الى مربع الدكتاتورية والأستبداد والحكم بالحديد والنار وأحكام الطوارئ، وقد تُلجئ اخيرا إلى نزع الشرعية عن الإسلاميين وحرمانهم ربما من المشاركة في الإنتخابات أسوة بما يجري في كثير من دول الجوار ( الديمقراطية !!!!!! ) مع وقف التنفيذ.....

لا يمكنني مع ما ذكرت ومن خلال تجربتي الشخصية إلا أن أعترف بأنني لا أشك أبدا في حسن نوايا الرئيس الفلسطيني ابو مازن رغم ما صرح به في خطابه ( الإنقلابي ) الأخير والذي اعلن فيه ( الطلاق ) من حركة حماس وإحتمالات الحوار معها، متهما إياها بتهم يعرف هو قبل غيره انها بريئة منها كبراءة الذئب من دم يوسف... لا أشك أيضا في إخلاصه للقضية الفلسطينية وإيمانه بعدالتها وحرصه على نجاحها، رغم ما يحمل من رؤىً تختلف في كثير من جوابها ربما مع ما تحمله حماس.... إلا أنني أستطيع ان أشهد أنه كان جادا في التعاون مع حماس بعد فوزها في الإنتخابات 2006، وعمل بكل صدق للوصول إلى معادلات تضمن حق حماس في السلطة وحق الشعب الفلسطيني في ان يرفع العالم عنه الحصار الظالم الذي فرضه بسبب فوز حماس.... أعترف ان المسألة لم تكن أبدا سهلة او يسيرة لوجود معوقات في طرفي المعادلة وذلك باعتراف الجميع... لا أستطيع – عدالة - إلا ان أضع قرارات الرئيس ابو مازن في سياق قناعاته المشروعة مهما اختلفنا او اتفقنا معها، والتي تستدعي عودة الى طاولة المفاوضات تعود بالشعب الى مربع العمل المشترك بعيدا عن ( الثارات !!! ) الجاهلية ( والأنا !!!! ) الفصائلية، وتقديم المصلحة العليا لفلسطين والشعب الفلسطيني على ما سواها....

الحل في رأيي المتواضع يكمن في النية المخلصة لكل الأطراف وعلى رأسها فتح وحماس، لتحويل المخزون السلبي الذي ترتب على احداث غزة وما تلاها من احداث في الضفة، الى رافعة توجه هذا المخزون لخدمة الشعب الفلسطيني على المدى القريب والمتوسط والبعيد.... لا اعتقد ان أحدا يختلف معي في ان الأحداث الأخيرة حققت للشعب الفلسطيني وقيادته من الطرفين هدفين ما كان يمكن ان يتحققا لولا الأحداث رغم مأساويتها، وهما :

الأول : إقامة حكومة طوارئ بعد حل حكومة الوحدة الوطنية، والتي يمكن ان تعمل على إنهاء الحصار عن الشعب الفلسطيني كله في غزة والضفة والقدس، والانطلاق بالموضوع الفلسطيني الى العالم من غير ارتباط بالمعوق المزعوم، وأعني به حماس، على أساس الثوابت الفلسطينية التي لا خلاف عليها بين الأطراف.... ما أرجوه ان ينجح الرئيس وحكومة الطوارئ من تحقيق هذا الهدف، وإن كنت أشك في ذلك على أثر ما رأينا من نتائج قمة شرم الشيخ والتي كان من ثمارها مذبحة غزة بعد يوم من انعقادها، وتشديد الحصار على الضفة وتصعيد العدوان على نحو ما رأينا في مدينة نابلس... أعتقد انه لا بد من إعطاء هذه الحكومة فرصة لنرى ما إذا كانت ستحقق اهدافها أم لا....

الثاني : تطهير الأجهزة الأمنية والسياسية من العناصر الفاسدة، والتي لا شك عندي في ان المرحوم ياسر عرفات وكذلك الرئيس ابو مازن كانوا يسعون الى ذلك ولكن دون جدوى لاعتبارات فصائلية ولأسباب متعلقة بسطوة هذه القيادات وتهديدها الدائم حتى لقيادتها، وقد رأينا امثلة كثيرة لذلك في الفترة الأخيرة... إن نجاح حماس في تطهير القطاع من هذه القيادات فتحت الباب على مصراعيه لأبي مازن أن يحقق ما فشل في تحقيقه على مدار سنوات طويلة... أكاد أجزم أنه لولا الإنجاز العظيم الذي حققته حماس في غزة لما استطاع ابو مازن من البدء في ( تكسير ) هذه الرؤوس الكبيرة حتى لو جاءت محاكماته لهؤلاء من منطلق جبنهم في مواجهة حماس في غزة... أنا أتفهم هذا المنطق ومستعد للقبول به... المهم ان يستكمل ابو مازن ما بدأته حماس في غزة حتى تتم الفرحة.... أعتقد كذلك انه لولا ما انجزته حماس لما تجرَّأ ثلاثون من كبار قيادات فتح على مطالبة ابو مازن بإقصاء محمد دحلان عن أي موقع رسمي او حزبي.... مَنْ كان يتخيل أن ترتفع اصوات فتحاوية تطالب برأس دحلان وهو الذي كان الى أن كشفته حماس على حقيقته، زعيم غزة ومستشار الأمن القومي الفلسطيني ؟؟!!!!....

لا بديل امام قيادتي حماس وفتح عموما والرئيس الفلسطيني أبو مازن ورئيس وزرائه اسماعيل هنية خصوصا، إلا أن يتجاوزا الأحتقان والعمل سويا على تجاوز الأزمة من خلال تقسيم ذكي للأدوار يُعطى كل طرف فيه ما يخدم المصلحة الفلسطينية العليا... لا جدوى من سياسة شد الحبال، كما انه لا جدوى من الرجوع الى الوراء، أو تبكير الإنتخابات، وإنما الجدوى كلها في توزيع جديد للأدوار، وصياغة مبدعة لنمط سياسي يستفيد من التجربة الماضية بما يخفف الضغط على الشعب الفلسطيني، ويبقي الإدارة الداخلية بيد من يستطيعون النهوض بالشعب على أسس جديدة.....