الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن قريباً في المنطقة. سوف يستهل عامه الأخير في البيت الأبيض بجولة لعلها ستكون الأخيرة فيها، تبدأ بالطبع بالقدس المحتلة، ويقول لنا المكتب البيضاوي أنها لسوف تستمر من الثامن من أول شهر في عامنا القادم وحتى السادس عشر منه. إنها مدة قياسية بالنسبة لزياراته لبلادنا التي اعتدناها منه تتكرّر إبان فترتي رئاسته التي شارفت على الانصرام. البيت الأبيض أفاض في الإفصاح عن أهداف الرحلة البوشيّة بلغته الإمبراطوريّة المعتادة... يستوقفك في لهجتها الأخيرة أمران:

الأول: أنها هي هي ذات اللغة لجهة التعبير والمضمون، وثانيها، أن لا جديد يمكن تلمّسه في هذين، على ضوء حقيقتين ترسّختا ولم يعد من جدل حولهما، لسوف تطاردان بوش ومن بقي إلى جانبه بعد من محافظيه الجدد إلى ما بعد رحيله عن البيت الأبيض، وستزيدان فتطاردان، أو سيحمل وزرهما من بعده، من سيخلفه في سدّة القرار الأمريكي، سواء أكان ديموقراطيّاً أم جمهوريّاً، و إلى ما شاء الله... هاتان الحقيقتان هما:

انتقال حظوظ المشروع الأمريكي في المنطقة من التعثّّر المبكّر إلى الفشل اللاحق، الأمر الذي لم يعد في الولايات المتّحدة نفسها، ناهيك عن العالم، من لم يلحظ بعد مثل هذا الفشل واتخاذ الموقف منه، إما منكراً أو مستنكراً أو مكابراً أو شامتاً... اللّهم إلاّ بوش نفسه وباقي الحفنة من محافظيه الذين لم يهربوا من السفينة الغارقة بعد، هذا الذي لا يزال يتحدّث عن تقدّم يُحرز لا يراه سواه... فشل في العراق ولبنان، تعثّّر في فلسطين والسودان، وفضيحة أخلاقيّة وإنسانيّة بلون أثيوبي في الصومال!

هذا الفشل يجرّ فشلاً وتطال عقابيله، ليس فحسب نسخة ذاك المشروع الذي خفت الحديث المطنب عنه لدرجة النسيان، نعني الشرق الأوسط الجديد، الذي بدأ بالكبير فالأوسع ... إلخ مثل هذه الصفات التي كانت آخرها، ونعني صفة الجديد، قد سمعناها، على لسان وزيرة الخارجيّة كونداليسا رايس إبّان الحرب العدوانيّة الأخيرة الخاسرة على لبنان، وإنّما حرب بوش الكونيّة الشاملة على عدوّه اللامرئي الممنوع من التعريف الإرهاب...

والثانية، أن الإمبراطوريّة التي حاولت القبض على عنق العالم عندما تفرّدت بالإمساك بخناقه بعد انهيار الإتّحاد السوفيتي وانتهاء ثنائيّة القطبيّة لصالح وحدانيّتها الأمريكيّة، أو حقبة ما يسمّى بنهاية الحرب الباردة، قد بدأت قبضتها في التراخي وأصابعها الفولاذيّة تحترق في حمأة حماقاتها الإستباقيّة، وبدأ العالم يستشعر إرهاصات وهنها ويشهد بأمّ العين بداية إطلالات كونيّة تنبئ بمرحلة من تعدّديّة المراكز الطامحة لأدوار تنسجم مع أحجامها وأحلامها... بدأنا نسمع تعابير أو توصيفات لا تجانب في دقّتها هذه الوقائع الكونيّة المستجدّة... مثل، يقظة التنين الأصفر، وإفاقة الدب الروسي، وربما، بل هو من المؤكّد، أننا بصدد الحديث قريباً عن الفيل الهندي...

ما تقدّم، لا يعني أن روما العصر قد هزمت، أو أن جموحها الإمبراطوري الهائج قد تمّ فلّه، أو أنّ العقلانيّة، التي تجانب عادة الإمبراطوريّات التي بدأت خطوتها الأولى في مسيرة الألف ميل نحو الأفول، سوف تحلّ في البيت الأبيض في عام الإدارة الأخير اليتيم... وحتى فيما بعده!

وإنما الجميع اليوم في هذا العالم، الذي جعله بوش يرتجف خلال السبع سنوات العجاف المنصرمة، قد أصبحوا على يقين بأنّ الولايات المتّحدة، أو هذه القوّة الأعظم المنفلتة من عقالها وعقلها، لم تعد قدراً... الجميع بدأ يحلم بعالم آخر..!
والآن، ما الذي، قلنا أنّه لم يتغيّر، تعابير و مضموناً وبالتالي سياسات، فيما قلنا بداية أنّ البيت الأبيض قد أفاض تفصيلاً فيه، وهو يعدّد استهدافات زيارة بوش المنتظرة إلى المنطقة؟

يقول البيت الأبيض، أنّ بوش سوف يتجشّم عناء الرحلة "لمتابعة التقدّم الذي تحقّق في أنابوليس... وتشجيع المصالحة العربيّة الإسرائيليّة... وتأكيد تعهّد الولايات المتّحدة بضمان أمن حلفائها... والعمل الوثيق لمحاربة الإرهاب والتطرّف... والتطوّرات في العراق و التحدّيات التي تمثّلها إيران. والأمن الإقليمي والعلاقات الاقتصاديّة"!!!

هل هناك من جديد؟؟!!
لنأخذ هذه واحدة واحدة... لنبدأ ب"التقدّم الذي تحقّق في أنابوليس"... ما كنه هذا التقدّم، هل هو التنصّل الإسرائيلي الفوري من الجدول الزمني للمفاوضات حول بدء المفاوضات بلا مرجعيّة سوى البند الأوّل من خارطة الطريق، مثلاً؟!

هل هو الإعلان عن البدء في توسعة مستعمرة أبو غنيم، جنوب القدس، فلمّا احتجّ محتج في رام الله أعلن الوزير أفيغدور ليبرمان، أو المكلّف بحقيبة الشؤون الإستراتيجيّة، أن هذه التوسعة التي اقتصرت على الشروع في بناء مئات الوحدات السكنيّة سوف ترفد بأخرى، في أقرب وقت ممكن، تبلغ ثلاثة آلاف وحدة... ولم يكتفوا بهذا فأعلنوا عن الإزماع في إقامة مستعمرة جديدة شمالي المدينة، تحكم الطوق التهويدي ليطبق عليها من كافّة الجهات... مستعمرة في منطقة قلنديا ، تتّسع إلى ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألف وحدة سكنيّة، وربّما قد تلامس، بل هي ستلامس مستقبلاً، أطراف رام الله؟!

أم هو التقدّم المتمثّل في المباشرة الفوريّة بعد انفضاض زوبعة أنابوليس في تطبيق سياسة العصا الغليظة والجزرة المسمومة على الفلسطينيّين المستفرد بهم... هذه السياسة التي تتكشّف تطبيقاتها عن مشهد مرسوم بالغ السوء وشديد المرارة، تبدو فيه غزة الثكلى على مدار الساعة تنزف دماء مشيّعة قوافل شهداءها، ورام الله، التي ليست بمنأى عن مثل هذا الحال في أيّة لحظة يقرّرون فيها ذلك، تعدّ دولارات المانحين الموعودة؟!

المانحون يريدون رشوة الثانية للتغطية على المجزرة التي تعيشها الأولى... مجزرة، مذبحة، وكل ما يكشف عن أن الإسرائيليّين، برعاية الأمريكان ومساعدة "المانحين" وتواطؤ ما يعرف ب"المجتمع الدولي"، لا يشبعون تدميراً ولا يرتوون دماءً، ولا ما يمنعهم من ذلك أو يحول دونهم وما يرتكبونه، حيث لا رادع لهم ولا وازع لديهم ولا من نصير أو مغيث لضحاياهم... ولاحظوا:

الجنرال باراك، وزير الحرب، سفّاح فردان، يهنّئ جيشه على منجزاته في مذابح غزّة. وجنرالاته، أو سياسيّو المستقبل، في دولة تحكمها دائماً المؤسّسة الأمنيّة، أو تُخرّج لها حكّامها، يفاخرون بمآثرهم الدمويّة و يراكمونها انجازات شخصيّة لمستقبل سياسي موعود... وأولمرت لجنة اغرانات، أو البطة العرجاء، وفق التوصيف الإسرائيلي، ينال على سياساته الغزّاويّة عاصفةً من التصفيق من قبل كتلته البرلمانيّة في الكنيست... هذا التجمّع الاستعماري الإحلالي ينتشي لمشاهد الدم العربي المراق في غزّة وغداً في الضفّة... وفي أي بقعة في العالم العربي المستباح.

... ثاني أهداف الرحلة البوشيّة هي "تشجيع المصالحة العربيّة الإسرائيليّة". هنا يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: وعلى ماذا تتم مثل هذه المصالحة؟
أهي على استرداد حقوق ليسوا في وارد ردّها للعرب، أم على فرض استسلام ما انفكوا يحاولون فرضه عليهم؟
أم أيعني ذلك فرض التطبيع، ودفعهم أكثر للتخلّي عن إخوانهم الفلسطينييّن، وتركهم لوحدهم يواجهون مصيرهم؟!

لقد كان في درس أنابوليس ما يكفي... جلبوا إلى هناك، بعد أن لُوّح لهم بإيقاف عملية بناء المستعمرات، وبعض الإشارات المبهمة إلى المبادرة العربيّة، وعادوا منها بخفي حنين، بعد أن أُشعروا أنهم إنما لم يدعوا إليها إلّا للتطبيع وكشهود زور لا أكثر...!

... والهدف الثالث، "تأكيد تعهّد الولايات المتّحدة بضمان أمن حلفائها"... هنا، لم يعرف التاريخ أنً الولايات المتّحدة، خارج حدود الغرب، قد حمت يوماً حليفاً أو ضمنت أمنه هكذا لوجه الله، أو هي لم تتخلّ عنه قبل صياح الديك عندما تنتفي ضرورة التحالف أو عدم خدمته لمصالحها... حدث مثل هذا لأدواتها في الفيتنام، وللشاه في إيران، ويحدث راهناً أو سيحدث قريباً في لبنان... ناهيك عن الدرس العراقي ومعه الأفغاني إلخ... هناك شذوذ واحد أحد عن هذه القاعدة فحسب ، هو أمن ربيبتها إسرائيل، أو الحرص التاريخي على تلبية متطلّبات وتوفير جهوزيّة حليفتها... حاملة الطائرات الأمريكيّة الأكبر والأضخم والأكثر كلفة في هذا العالم!

... الرابعة، "محاربة الإرهاب والتطرّف"، وهنا نستعير عبارة بوشيّة تليدة تقول، أنّه بفضل حروبه الكونيّة خلال حقبتي ولايته قد "أصبح العالم أكثر أمناً"، وبما أنّ الواقع يعكس هذه المقولة ويقلبها إلى ضدّها يمكن الاكتفاء بهذا تعقيباً...

...والخامس، "التطوّرات في العراق والتحدّيات التي تمثّلها إيران"...التطوّرات في العراق معروفة وليست بحاجة للحديث عنها، سواء لجهة ما أوصل الاحتلال هذا البلد إليه من كوارث، أو تفاقم ورطته هناك، التي ما انفكّ يحاول منها مخرجاً... ومع ذلك نسمع كونداليسا رايس تقول للعراقيّين في كركوك، أو هذه البؤرة العراقيّة قيد التفجّر جرّاء العبث الأمريكي بالنسيج الوطني العراقي...
"إنّ الولايات المتّحدة شريك جيّد لكم، وننوي البقاء شركاء لكم لفترة طويلة"... البقاء لفترة طويلة!!!

وبقي "من هذا الهدف الخامس، التحدّيات التي تمثّلها إيران"... قلنا في مقال سابق أنّ العرب، كل من موقعه، ووفق قدرته وجرأته، قد قال للولايات المتّحدة، إن إيران ليست عدوّنا مهما اختلفنا معها، وهناك لدينا ما نختلف معها عليه... قالها مجلس التعاون الخليجي، وأوحت بهذا دعوة الرئيس محمود أحمدي نجاد لقضاء فريضة الحج... البيت الأبيض، هنا، يتناسى ويصرّ على تناسي تقرير مجموع أجهزة الاستخبارات الأمريكيّة الستّة عشر الذي يقول بإيقاف برنامج إيران النووي منذ أربعة أعوام خلت، تماماً كما تجاهل من قبل تقرير الدكتور محمّد البرادعي رئيس وكالة الطاقة الذريّة الدوليّة..!

... ربّما وعلى ضوء ما أسلفنا، لسنا بحاجة لمناقشة الهدف السادس والأخير للجولة الرئاسيّة الأمريكيّة في عام صاحبها الأخير في البيت الأبيض... "الأمن الإقليمي والعلاقات الاقتصادية"!!!

قبل رحلته، التي ربّما هي الوداعيّة للمنطقة قبل رحيله المقترب موعده عن السلطة، ونأمل أنها كذلك، وافق الكونغرس الأمريكي على اعتماد المبالغ الملياريّة المطلوبة لمواصلة شنّ حروبه الدائرة في بلاد الأفغان والرافدين... وحيث لا تغيير لا في المصطلحات ولا في المضمون، وبالتالي في السياسات بالنسبة لجورج بوش الابن، و عطفاً على ما اعتمده الكونغرس لتمويل قديمه المتجدّد... جاء بوش الذي لم يتخلّى عن بوش، لهدف الأهداف... لحصاد ما أمكن له من نزر حصاد عجاف حقبتيه الرئاسيّتين الصاخبتين... وليحمل من سيخلفه وزر إكمال المهمّة...!