استعار الرئيس الأميركي جورج بوش لنفسه، وهو يواجه العالم، أمس، من فوق منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعض صفات العزة الإلهية، وانطلق يوزّع الدول والشعوب على و، بأحكام قاطعة لا تقبل المراجعة أو النقض.

لم يكتفِ، هذه المرة، بتوزيع شهادات حسن السلوك على أمراء المقاطعات، بعيدها والقريب، أو بتأديب المشاغبين بطردهم من الصف، بل إنه عاد إلى التاريخ، وهو المشهود له بالثقافة الواسعة وبالتفكير العميق وبالتحليل العلمي النيّر، ليقول للعصاة إنهم لا يليقون بماضي بلادهم فكيف بحاضرها... بينما تولى توزيع الأوسمة على الذين عادوا ببلادهم القهقرى إلى ما خلف الماضي فضيّعوا حاضرها ومستقبلها.

كانت لهجته قاطعة كقضاة محاكم التفتيش، حتى ليتوهّم سامعه أنه كلما فرغ من تلاوة حكم على سوف يتقدم منه الجلادون ليصحبوه إلى المقصلة، وسط ذعر ذلك الحشد من الرؤساء والكبراء والأمراء والوزراء الذين أقعوا على أقفيتهم أمامه يتحفزون لسماع ما يخصهم من أحكامه، فإذا ما برّأهم وثبّتهم في مواقعهم هتفوا بحياته وهم راكعون، وإذا ما جرّمهم صرخوا يطلبون الرحمة والرأفة بعيالهم.

ومن نعم الله على لبنان أنه قد نال إشادة استثنائية يبلغ من حرارتها أنها قد تفجّر فيه حرباً أهلية... فبعدما نوّه بنزول اللبنانيين إلى الشوارع ، انتقل إلى التحريض على فحمّله مسؤولية الحرب الإسرائيلية واستطراداً (التي ظلت مجهولة المصدر)... وإذ استذكر الرئيس الأميركي الراحل اللبناني الكبير شارل مالك بوصفه واحداً ممن كتبوا وثيقة ، عاد إلى اللبنانيين يؤكد استحقاقهم .

ثم إنه حدد لقوة مهمتها وهي: مساعدتكم على استرجاع السيادة على التراب اللبناني (ولكنه لم يحدد، هنا، ممن سيستعيدها اللبنانيون..)، وإن كان قد حرّض في مقطع سابق على ..

بالمقابل كان الرئيس الفرنسي جاك شيراك يحذّر لبنان (القريب إلى قلبه) من أن ، مؤكداً على ضرورة .

وبقدر ما يفرح اللبنانيون أن يكون وطنهم الصغير قد غدا موضع اهتمام العالم، وأن يكون قد حظي من الرئيس الأميركي بكل هذه الإشادة، فإنهم لا يستطيعون أن ينسوا الدور الأميركي في فلسطين والذي جدّده بلسانه أمس، محرضاً على حماس، داعياً إياها إلى التخلي عن الإرهاب والاعتراف بإسرائيل.. مؤكداً أن وزيرة خارجيته ستترأس بعثة لمساعدة الفلسطينيين على إصلاح أجهزتهم الأمنية (لتنوب عن إسرائيل في اعتقال الإرهابيين؟!)..

أما الدور الأميركي في العراق فكيف يمكن أن ينسى ودماء العراقيين تُراق غزيرة كل يوم بإشراف الاحتلال الأميركي وبجهده الخارق لتنظيم الفتنة وكادت أمس أن تقتحم المبنى الزجاجي الذي يتصرف فيه الرئيس الأميركي تصرف المالك.

لقد باتت كلمة الديموقراطية عندما ترد على لسان الرئيس الأميركي إنذاراً بتفجير حرب أهلية (وها هو الآن يواصل تنظيمها في السودان، انطلاقاً من دارفور، بعدما أمكن التهدئة في الجنوب)..

وكل ما نرجوه ألا تأخذ الديموقراطية الأميركية لبنان إلى حيث تكاد تطمس فلسطين بدمها (قضية ووطناً وسلطة تعجز عن حماية ذاتها فكيف ستبني دولة) وإلى حيث يمزق العراق في حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وإلى حيث يقطع السودان أشلاء من الأعراق والعناصر المقتتلة ليبقى النفط بلا صاحب فيأخذه الأقوى، وهل ثمة من هو أقوى من الرئيس الأميركي الذي يعطي نفسه الكثير من العزة الإلهية؟!

لم يلقِ الأفريقي الطيب على عجزه خطبة الوداع أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، أمس، ولكن الرئيس الأميركي أعلن بلسانه نهاية هذه المنظمة التي كانت الشعوب تتطلع إليها بشيء من الأمل لإنصافها من مستعمريها.

وربما لهذا السبب استذكر بوش الراحل الكبير شارل مالك... أي لتعزيز النعي باستذكار حسنات المقتول!


"السفير"