المبادرة العربية، كما وصفها رئيس مجلس النواب، كانت حقاً خطوة تاريخية، من حيث إنها جسدت موقفاً محدداً واضحاً من مقاربة الأزمة اللبنانية مبنياً على التوازن بين الأكثرية والمعارضة، فإذا قضت المبادرة بانتخاب فوري للمرشح الذي حظي بالتوافق بين الفريقين، وتحديداً قائد الجيش العماد ميشال سليمان، فإنها نصت على توزع مقاعد مجلس الوزراء في أول حكومة تتشكل في العهد الجديد على وجه لا يكون فيها حق القرار في المسائل الأساسية للأكثرية، أي لا يكون للأكثرية أغلبية الثلثين، ولا يكون للمعارضة حق التعطيل أو النقض، أي لا يكون لها من المقاعد الوزارية أكثر من الثلث، ونصت المبادرة على اعتماد قانون انتخاب جديد، والمفترض أن يكون القانون عادلاً وشفافاً وأن يكون منطلقاً لإجراء انتخابات نيابية مبكرة تجدد الحياة السياسية.

أظهر التحرك الذي قام به أمين عام جامعة الدول العربية، الدكتور عمرو موسى، حقيقة معروفة ولو أنها مرة، وهي أن القرار الفعلي في نظامنا، الذي يزعم بعضنا أنه ديمقراطي، قاصر على عدد من الزعامات لا يتجاوز عدد أصابع اليدين، وهم أولئك الذين حصر أمين عام الجامعة اتصالاته بهم في جولته اللبنانية، فاتصالاته اقتصرت على رئيس مجلس النواب وأمين عام حزب الله ورئيس التيار الوطني الحر في جانب، ورئيس القوات اللبنانية ورئيس كتلة المستقبل، ورئيس جمهورية سابق، ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في الجانب الآخر، وشملت الاتصالات أحد رؤساء الحكومات السابقين قيل إن ذلك تم نزولاً عند طلب المعارضة. إذا كان قرار المصير يتوقف على هؤلاء، فالمصير الوطني في يد ثمانية من قادة الساحة السياسية. هل هذا من الديمقراطية في شيء؟

عندما بلغ الأمين العام للجامعة خبر استغراب استبعاد منبر الوحدة الوطنية الذي أتحدث شخصياً باسمه، قال إن الذين شملتهم اتصالاته هم أطراف “اللعبة” في لبنان، وأنا لست في عداد هؤلاء.

ورموز الساحة، الذين يحتكرون قرار المصير، يتراشقون الاتهامات، ففريق منهم يتهم الفريق الآخر بالتبعية لأمريكا (ومن ورائها “إسرائيل”) ولدول عربية معينة. والفريق المقابل يتهم الآخرين بالتبعية لمحور سوريا وإيران. ولكن عرب الجانبين كانوا في مؤتمر وزراء الخارجية الذي أطلق المبادرة العربية. فلماذا تعثرت المبادرة إذن؟ هنا يكمن سر المشكلة اللبنانية وارتباطها بأزمة أو أزمات، المنطقة. فإذا كانت “إسرائيل” أحياناً مباشرة وأحياناً عبر حليفتها الدولة العظمى، طرفاً في النزاع الإقليمي، فكيف سيكون الحل للأزمة اللبنانية و”إسرائيل” لها مآرب في عدم استقرار المنطقة عموماً، ولبنان خصوصاً، ولها مصلحة بالأخص في مضايقة المقاومة التي غيرت المعادلة في الشرق الأوسط والتي كانت تمسك الدولة الصهيونية بزمامها من موقع القوة التي لا تقهر، فإذا بالمقاومة تسجل انتصاراً عليها في عام 2000 ثم في حرب تموز خلال صيف العام 2006.

فلا غرابة والحال هذه في استعصاء الأزمة اللبنانية حتى في ظل وفاق عربي يعقد على مستوى وزراء الخارجية. ولكن العجب صارخ في التساؤل: ألا يدرك المستأثرون بالقرار في لبنان هذا الواقع؟ وإذا كانوا يدركونه، فلم يا ترى لا يتحدونه بلبننة الحل، أي بالاتفاق على صيغة مخرج من الأزمة على الرغم من ارتباطها الوثيق بأزمة المنطقة، وقد جاءهم الحل على طبق من فضة من لقاء وزراء الخارجية العرب.

لماذا، بعبارة أخرى، لا نعتمد المطروح في المبادرة العربية كما جاء، متجاوزين الخلاف على جنس الملائكة عبر الاشتباك حول مقعد وزاري أكثر أو أقل لهذا الفريق أو ذاك، لماذا لا نرتفع إلى مستوى المسؤولية الوطنية في مواجهة المصير فنتفق على تسوية ما، أي تسوية، لما اختلفنا عليه أمام أمين عام الجامعة؟

فلنتفق على تسوية ما قبل عودة الأمين العام بعد أيام لاستئناف مهمته بيننا، ولنجعل الهدف الأساسي الذي نلتقي عليه الإصرار على حكومة تتمتع بصلاحية اشتراعية في موضوع قانون الانتخاب، الذي يجب أن يتضمن نصاً، كما كان في عام ،1992 بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات نيابية تجدد الحياة السياسية ويكون الحكم بعدها، كما في أي ديمقراطية حقيقية للأكثرية النيابية، وتكون الأقلية في موقع المعارضة. هكذا فقط يكتسب نظامنا شيئاً من الديمقراطية بعودة المساءلة والمحاسبة إلى الممارسة الفعلية، فلا مساءلة ولا محاسبة على نحو فاعل بوجود حكومة وحدة وطنية، هي في واقع الحال صورة مصغرة عن مجلس النواب ككل، فالمعارضة هي التي تؤمن المحاسبة إذا كانت خارج الحكم.

ولكن الخلاف حول قانون الانتخاب لم يعد خافياً على أحد، هناك من يدعو إلى اعتماد القضاء دائرة انتخابية، مع أن اتفاق الطائف ينص صراحة على اعتماد المحافظة، ونحن من دعاة اعتماد نظام النسبية الذي يفترض اعتماد دوائر واسعة ومختلطة، اننا نتمنى عملياً اعتماد المشروع الذي خرجت به اللجنة الخاصة التي أنيطت بها دراسة مشروع جديد لقانون الانتخاب، وكانت برئاسة الأستاذ فؤاد بطرس، والمشروع يقوم على مزيج بين قاعدة النسبية في مناطق وقاعدة الدوائر الأصغر في مناطق أخرى.

يبقى من الخلافات بين اللبنانيين ما يتعلق بآلية انتخاب الرئيس: وتحديداً كيف يمر التعديل في مجلس الوزراء، كما يقضي الدستور، والمعارضة لا تعترف بشرعية الحكومة أو دستوريتها أو ميثاقيتها بعد انسحاب فريق وازن منها من دون قبول استقالتهم ومن دون تعيين بدلاء يخلفون المستقيلين؟

سبق أن اقترحنا العمل على جمع الحكومة بكامل أعضائها بمن فيهم المستقيلون، لمرة واحدة وأخيرة لإقرار مشروع التعديل الدستوري الذي يتطلبه انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية، وللمستقيلين أن يعلنوا التحفظات التي يشاؤون عند دخولهم الجلسة وعند خروجهم منها. هذه المسألة لم يتناولها الأمين العام للجامعة في اتصالاته بحسب ما ورد في الأخبار، في جولته اللبنانية التي اختتمها في 12/1/2008.

تأجل موعد انعقاد جلسة انتخاب الرئيس للمرة الثالثة عشرة إلى 21/1/2008. إذا صممنا على لبننة قرار التسوية، كما يجب أن نفعل، فإن الموعد المعلن يجب أن يكون موعد انتخاب الرئيس العتيد.
"الخليج"