رئيس أسير استباقيته وإمبراطورية أسيرة استراتيجياتها!../ عبد اللطيف مهنا
فجر تقرير صحيفة "نيويورك تايمز" الإعلامي جدلاً في الولايات المتحدة لم تنقشع سحبه بعد وهي إلى ازدياد. التقرير قال باحتمالات تغيير الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إستراتيجيته المتبعة في العراق المحتل... ومن يومها كان هم الإدارة الأميركية هو النفي، وهذا النفي يزيد من وتيرة ذلك الجدل، كما انه لا يخفي البادي عياناً من الإرباكات التي تعيشها هذه الإدارة جراء تفاقم ورطتها العراقية المستفحلة.
ما هو المهم في هذا التقرير مثار الجدل؟ ولماذا استدعى تقرير إعلامي في صحيفة كل هذا النفي المرتبك من قبل هذه الإدارة؟!
انه باختصار، ووفق تقرير الصحيفة، يتمثل في الكشف عن دعوات بدأت هذه المرة من داخل البيت الأبيض ذاته للإعلان عن نوع من انسحاب تدريجي مزمع من العراق... لكن، تجدر الإشارة هنا إلى أن هذا الانسحاب التدريجي المطلوب لا يأتي في سياق انسحاب شامل مفترض من هذا البلد العربي المحتل، وإنما في سياق هدف هو تقليص الخسائر البشرية والمادية للمحتلين، وتجنباً لسبل الهلاك المحيقة بعديد جيش الاحتلال. بمعنى آخر، هو بعض من سبل محاولة الخروج من الورطة العراقية، وليس الخروج من العراق. أو تلمس لسبل بقاءٍ بلا تلك الخسائر أو أقل ما يمكن منها... وهنا، تأتي سيناريوهات القواعد التي سيتم إنشاؤها في العراق، أو هي أنشئت بالفعل، لكي تتجمع جيوش الغزو فيها، أو استراتيجية الخروج من المدن، وإيكال أمر مواجهة المقاومة لقوى محلية جاءت مع الاحتلال أو نشأت في كنفه، أو قوات موالية تم تدريبها وتجهيزها والإشراف على أدائها، ومساعدتها ميدانياً عند الحاجة، من قبل المحتلين.
ومع أن الانسحاب الجاري الحديث عنه يأتي في مثل هذا السياق، فالإدارة لا تحتمل عدم نفيه ولم تتلكأ في ذلك، أما ارتباكها فمرده هو ما ذكره تقرير الصحيفة من أن مستشاري الإدارة ومسؤوليها يعتريهم القلق من أن ما دعته بـ" الدعامات الأخيرة " للإدارة من الجمهوريين في مجلس الشيوخ هي "آخذه في الانهيار"، كما أنهم، وإضافة إلى ذلك، يخشون المزيد من الانشقاقات المنتظرة داخل الحزب الجمهوري في حال تغيير الإستراتيجية البوشية في العراق.
ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي، مثلاً، يذكر التقرير بأنه " قلق للغاية" للأسباب المذكورة آنفا، ويشاركه هذا القلق كارل روف مستشار البيت الأبيض للشؤون الإستراتيجية. لاسيما وان القوى داخل الحزب الجمهوري نفسه قد بدأت تتحشد ضد بوش على ضوء استفحال الورطة العراقية وازدياد كلفتها البشرية والمادية. فالمادية، مثلاً، وفق تقرير لصحيفة "نيويورك صن" قد بلغت 450 مليار دولار حتى الآن. أما البشرية فرغم التكتم وعدم نشر الأرقام الحقيقية كما هو متبع، فهي إلى ازدياد، ناهيك عن أن بعض التقارير الأميركية تقول بأن البنتاغون قد فشل في تحقيق الرقم المطلوب من المجندين خلال الشهرين المنصرمين.
ما تقدم جعل الإدارة الأميركية تبذل جهدها الجهيد في إرجاء النقاش حول المسألة إلى ما بعد منتصف الشهر التاسع القادم، أي موعد رفع قائد قوات الاحتلال الأميركي في العراق الجنرال ديفيد بتراوس تقريره الميداني الذي يشاركه فيه السفير الأميركي، أو المندوب السامي الأميركي، في بغداد رايان كروكر. بيد أن تقريراً آخراً، نعني هذا الذي أصدرته الإدارة نهاية الأسبوع المنصرم حول التطورات في العراق، سوف يثير المزيد من وجع الرأس لها، لما سوف يثيره من ردود أفعال لا تشتهيها. وحيث كانت تتوقع ما سيثيره سلفاً، وتحسباً لذلك، ألغى وزير الحرب روبرت غيتس جولته المزمعة في أميركا اللاتينية للتفرغ لاجتماعات الأعداد للتقرير العتيد. والمعروف أن روبرت غيتس هذا هو مع انسحابات تقلص قوات جيشه المحتل إلى النصف في أكثر المناطق مقاومة للاحتلال في العراق، أو حيث تتكبد أكثر الخسائر جراء ضربات المقاومة المتصاعدة. تكفي الإشارة هنا إلى أن ما تدعى المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية، أو هذه المنطقة المحصنة حيث تتواجد فيها سفارتي الاحتلال الأميركي والبريطاني وحكومة عراق ما بعد الاحتلال، قد تلقت في الآونة الأخيرة، و في يوم واحد فحسب، فقط 30 قذيفة مورتر وصاروخ وفق بيانات المحتلين أنفسهم!
التقرير المشار إليه، الذي وصف بالمرحلي شارك في إعداده مجلس الأمن القومي والبنتاغون والخارجية وقائد جيش الاحتلال في العراق الجنرال بتراوس... حاول أن يلعب دور القاضي والمتهم في آن، واعترف بأن ما دعاه التقدم الذي أحرز في العراق "غير مرض" وأن الصيف العراقي بنذر بـ "قتال عسير". وحيث قيل أنه حاول أن يقدم صورة مبدئية عن مدى التزام حكومة المنطقة الخضراء العراقية بـ 18 هدفاً "إصلاحياً" كشرط لدعم الكونغرس تمويل جيش الاحتلال، أعترف أن ما تحقق من تلك الأهداف لا يعدو الثمانية فحسب، من بينها "تشكيل الأقاليم شبه المستقلة"!!!
وقبل صدوره وبعده، توالي الإدارة الأميركية المربكة تكرار نفي تقليص عديد جيشها المحتل للعراق، ووزارة الحرب تقلل من شأن تقرير "النيويورك تايمز" ما استطاعت، والجنرال بتراوس يرجح البقاء في العراق لعقود قادمة، وكروكر آخر ما تفتقت عنه قريحته هو تشبيه ما يجري في العراق بما دعاه التجربة اللبنانية، وعليه، يحذر من الانسحاب المبكر الذي في رأيه سيعيد ذات التجربة في العراق، ويؤكد:
"إنني على يقين من أن ما سيحدث هنا يفوق أي تصور" !!!
هذا الفائق للتصور اقله عنده هو " الانهيار الكامل لقوات الأمن العراقية" التي أنشأها الاحتلال، والتي تفوق الثلاثمائة وخمسين ألفا...إذن الإدارة تشحذ دفاعاتها... وبوش، الذي أرسل حاملة طائرات ثالثة إلى الخليج، يرفض بعناده المعروف دعوات في الكونغرس للانسحاب، مشدداً على أن "مستوى القوات يجب أن يقرره قادتنا في الميدان لا المسؤولون السياسيون في واشنطن"...كرر بوش مقولاته المعروفة، ومنها :" إن الانسحاب المبكر سيكون كارثياً"، واصفاً هذا الانسحاب هذه المرة بـ"المتهور"، وحيث لا زال يؤكد على أن أمريكا قادرة على كسب الحرب، يصر على أنها لن تتراجع قبل تحقيق أهدافها، وعليه فلسوف يستخدم حقه الدستوري في نقض أي قرار من الكونغرس يدعو للانسحاب، وسيرسل وزيرة الخارجية الأمريكية ووزير الحرب غيتس إلى بغداد لدعم المالكي!.
...ومع ذلك، جاء أول الغيث ولم يطل الانتظار، فها هو رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس كارل ليفن يقترح مشروع قانون يلزم بوش ببدء الانسحاب في غضون 120 يوماً، مع " قصر القوات الباقية على التدريب ومواجهة تنظيم القاعدة وحماية المرافق الأميركية"!.
دخان الجدل الأميركي هذا لا يخفي ناراً تزداد اشتعالاً مع الأيام تحت قبة الكونغرس، وسيزيدها تقرير بوش المبدئي التهاباً، وتقرير الجنرال والسفير في بغداد بعد قرابة الشهرين لهيباً. كما أن صدى الجدل الذي أثاره تقرير " النيويورك تايمز" بدأ ينعكس على أطراف ما تدعى المسيرة السياسية العراقية تحت الاحتلال تحسباً وهلعاً، فوزير خارجية عراق ما بعد الاحتلال هوشيار زيباري يحذر من "مخاطر الخروج السريع" لجيش الاحتلال من العراق، والتي تتفاوت عنده بين حرب أهلية ، تقسيم، حروب إقليمية، انهيار حكومته، والخلاصة ما دعاه "صيفاً ساخناً "! ويمكن تلمس مثل هذا الكلام عند آخرين من رموز ذات المسيرة، يركزون فيه على ضرورة بقاء المحتلين ويحذرون من ما يدعونه الفراغ الأمني الناجم عن انسحابهم.
في حومة هذا الجدل، وبعيداً عن زبده الذي يذهب اغلبه جفاءً، ما هو التغير الممكن في ما تدعى استراتيجية بوش في العراق، إذا ما أخذنا في الاعتبار لماذا أرسل جيوشه لغزو العراق أصلا؟
لن نناقش هنا ذرائع الغزو أو ذريعتيه الرئيسيتين اللتين ثبت بطلانها، وهما أسلحة الدمار الشامل، التي لم يعثر عليها، والعلاقة مع القاعدة. التي لم تصل إلى بلاد الرافدين ولم تعرفها إلا بعد غزو العراق، واللتين استبدلتا بذريعتين سوف يسخر من زيفهما التاريخ طويلاً، أي نشر الحرية والديمقراطية التدميرية تحت حراب الاحتلال، أو إقامتها في كنف الفوضى الخلاّقة... لكن، لماذا كان الغزو ؟!
لقد كان في سياق استراتيجية استباقية إمبراطورية على الصعيد الكوني للمحافظين الجدد، هي بهم ومن دونهم ملازمة للجموح الإمبراطوري للقوة الأعظم يمكن تلخيصها ما أمكن في النقاط التالية:
وضع اليد على هذه المنطقة أو هذه البقعة الجيوسياسية الإستراتيجية الأخطر من العالم بما يضمن التحكم فيه، أو استمرار أحادية القطبية الكونية الأميركية أطول أمد ممكن ، حيث من يتحكم في العالم العربي وجواره الإسلامي، أو هذه الخارطة الممتدة من آسيا الوسطى وحتى مشارف أفريقيا السوداء، يحكم الطوق، أو يطل مباشرة، على احتمالات نهوض وطموحات المراكز العظمى الواعدة أو القادمة لا محالة مستقبلاً، كالصين، والهند، ولا ننسى روسيا العائدة أو الطامحة للعودة إلى أيامها العظمى الخوالي. ثم إن وضع اليد على نفط المنطقة يعني وضع اليد على عنق العالم، وما يعنيه ذلك للقوة التي تريد البقاء أطول مدة ممكنة القوة الأعظم في العالم.
ألم يقل بوش في حومة الجدل الذي نحن بصدده أن لا عودة لجيوشه الغازية إلا "بعد نجاحها في تأمين المصالح القومية طويلة الأمد للولايات المتحدة في العراق والمنطقة"؟! ثم الم يقل أيضاً، أن "الصراع في العراق هو جزء من نزاع أوسع ينتشر في أرجاء المنطقة"؟!..
بيد أن للإستراتيجية الأميركية في العراق شقها الآخر الذي قد لا يقل أهمية لدى الغزاة، بغض النظر عمن يقطن البيت الأبيض، ونعني الشق الإسرائيلي من هذه الإستراتيجية... انه ليس حماية إسرائيل أو الحفاظ على تفوقها فحسب، أو هذه المسلمة الأميركية المعتادة، وإنما ولذات الهدف وفي خدمته، كان لابد من إخراج العراق كواحدة من رافعتين لا قيامة للأمة العربية بدونهما، باعتبارهما قطبا رحى معادلة النهوض العربي المحتمل... نعني مصر التي أخرجت من معادلة الصراع العربي الصهيوني بعد اتفاقية كامب ديفيد أو تم تحييدها، والثانية، العراق الذي تم تدميره أو هدم كافة ركائز الدولة فيه... الأمر الذي يعني تثبيت إسرائيل وتحويلها مركزاً إقليميا قائداً في خدمة الإستراتيجية الأميركية الإسرائيلية الواحدة أو المشتركة، تدور من حوله شظاياها، أو ما تبقى من تداعيات الفوضى الخلاّقة.
...ما الذي تحقق ؟
حتى الآن الشق الإسرائيلي من استراتيجية الغزو يمكن القول انه هو المتحقق... وما تبقى منها يظل تحت طائلة ضربات المقاومة العراقية ومثلها الأفغانية... إذن، ما الذي يقوي بوش على تغييره في هذه الإستراتيجية، هذا لو أراد، أو استجاب لمناشدة مستشاريه، أو ضغوط شيوخ الكونغرس، سوى تلمس سبل تقليص الخسائر البشرية والمادية التي تلحق بالمحتلين.. بمعنى الخروج من الورطة العراقية والبقاء في العراق؟!
لكن للمقاومة العراقية كلمتها... وهنا المشكلة بالنسبة لتقارير بوش وإدارته، الأولية والميدانية على السواء، أوهنا بيت القصيد، وحول هذا يدور وسيدور الجدل في واشنطن طيلة بقاء بوش في البيت الأبيض وبعد رحيله... لكن مع الملاحظة التالية:
الشق الإسرائيلي في الإستراتيجية التي وصفناها بالمشتركة متوالي الطموح، ولنأخذ مثلاً:
وزير الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلي "أفيغدور ليبرمان"، عاد من جولة أوروبية تضمنت زيارة لمقر حلف الناتو في بروكسل... عاد محذراً من تقاعس الغرب عن واجب إزالة احتمالات الخطر النووي الإيراني على إسرائيل، والذي يعني وجوب اعتماد إسرائيل على نفسها حيال ذلك... أي أن لا خيار عسكري غربي ضد إيران الآن... ليبرمان نقل عمن التقاهم ما يلي:
" نحن عالقون في أفغانستان، وقوات أوروبية وأميركية تغرق في الوحل العراقي، الأمر الذي سيمنع قادة الدول الأوروبية وأميركا من اتخاذ القرار باستخدام القوة العسكرية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية ".
وعليه يستنتج ليبرمان، إن على إسرائيل أن تعمل وحدها، وهي "ستتلقى المباركة" من هؤلاء العالقين في أفغانستان والعراق!
والسؤال، وإذا حصلت المباركة، أي كان الإذن لها بإنجاز المهمة التي لم يقوموا بها نيابةً عنها، وبالنظر إلى كون إسرائيل الصنيعة والحليف، فما الذي تبدل في إستراتيجيتهم إذن ؟!!
لم يأت الأمريكان للعراق والمنطقة للخروج منه أو منها، ولن يفعلوا إلا إذا أرغموا على ذلك... هنا مرد الأزمة التي ستشوب وقائع الباقي من أيام بوش في البيت الأبيض... بوش أسير استباقيته، وأميركا أسيرة استراتيجياتها الإمبراطورية التي لا تمتلك ترف التراجع عنها، فمن أين له القدرة على تغيير إستراتيجيته، أو في جوهر الأمر، هل من عودة محتملة عن استراتيجية الولايات المتحدة في العراق... كيف لها الخروج من الورطة العراقية والبقاء هناك؟!
حول هذا يثور الجدل تحت قبة الكونغرس ويتردد صداه في تل أبيب! .