قدم “حزب الله” مثالاً رائداً للأداء السياسي الناجح خلال فترة الحرب، سواء في الادارة السياسية للمعارك، أو في تهيئة الجبهة الداخلية اللبنانية وبناء مقومات تماسكها، أو في مخاطبة العدو واللعب على تناقضاته الداخلية، أو في مخاطبة العرب والمسلمين والعالم، أو في كسب الحلفاء والأصدقاء وتحييد الخصوم والتشنيع على الأعداء.

وطيلة أيام الحرب وقد بلغت ثلاثة وثلاثين يوماً لم يدع “حزب الله” مجالاً للفراغ السياسي أو لسؤال أحد في الداخل والخارج عن موقفه في هذه المسألة وتلك. إذ كان حاضراً كل يوم، كل ساعة عبر قادته ووزرائه ونوابه لإجابة أسئلة الرأي العام وتهدئة مشاعر القلق. ولعل خطابات أمينه العام السيد حسن نصر الله، في إطلالاته المتكررة على الرأي العام تلفزيونيا (وكانت بمعدل خطاب في كل خمسة أيام)، المثال الأرقى لذلك الأداء السياسي المميز.

حين يعيد المرء قراءة خطب السيد حسن نصر الله أثناء الحرب، تستوقفه كثافة المضامين التي انطوت عليها، وكثافة الرسائل السياسية التي حملتها، والأبعاد المتعددة التي شددت عليها، والصور المختلفة التي تمظهرت فيها تلك المضامين والرسائل والأبعاد. نقف سريعاً أمام أربعة مستويات وأبعاد في تلك الخطابات: تتدرج فيها من الأدنى إلى الأعلى بمقتضى زمن تعاقبي، وتتدرج فيها على النحو نفسه في الخطاب الواحد وبشكل متزامن:

أول مستويات ذلك الخطاب فعل التعبئة والتجييش. ولقد انصرف هذا المستوى من الخطاب إلى مخاطبة القوى المعنية بالحرب مباشرة: “حزب الله” ومقاتليه وجمهوره الاجتماعي المباشر في مدن الجنوب وبلداته وقراه وفي مناطق البقاع اللبناني وفي بيروت. شدد هذا المستوى من الخطاب على تنمية حس المواجهة لدى القوى التي يخاطبها وعلى استنفار قواها في المعركة. خاطب المقاتلين بما يعزز الشعور لديهم بثقل المسؤولية الوطنية والدينية والتاريخية التي يتقلدونها في هذه اللحظة نيابة عن الحزب كله، وعن مناطقهم وجمهورهم الاجتماعي (الشيعي)، وعن شعب لبنان كله، وعن العرب والمسلمين أجمعهم. وكانت مفردات التشجيع وشحذ العزائم والهمم ومفردات المحبة التي تبلغ حد تقبيل الأيدي والرؤوس تتردد لترفع من معنويات المقاتلين، ولترفع قاماتهم السوامق في أعينهم، فتعينهم على ما هم فيه من رسالة جهادية. من ذا الذي لا يستطيع أن يهب حياته من المقاتلين فداء لهذا السيد المحبوب (حسن نصر الله) الذي يتواضع فيسمي مقاتليه قادة ويقول فيهم ما لم يقله قائد في مقاتليه قبلاً؟ في موازاة ذلك، يخاطب جمهور المقاومة والحزب النازح من دياره اضطرارا بأن له النهر الموعود، وبأن صبره والتفافه حول مقاومته يعجلان موعد ذاك النهر، وبأن عودته إلى الأرض والموطن أزفت، وبأنه مؤتمن على رسالة جليلة: حمل صورة مشرقة عن مجتمع المقاومة إلى مناطق نزوحه كافة.. ثم بأن الحزب سيعيد إعمار ما هدمه العدوان.

وثاني مستويات الخطاب فعل طمأنة الداخل اللبناني واستدرار تماسكه ووحدته في مواجهة العدوان. ولأن الداخل هذا ليس واحداً في وجهته وفي موقف قواه من الحرب ومن مسؤولية “حزب الله” فيها، بل متباين أشد ما يكون التباين، كان على مخاطبة الحزب لذلك الداخل أن يسلك وجهتين متلازمتين: وجهة تشجيع حلفاء المقاومة على إبداء مزيد من الدعم للمجهود الحربي الذي يقوم به المقاتلون في الجبهة دفاعاً عن الوطن، وابداء مزيد من الحرص على الوحدة الوطنية وعدم الانجرار إلى الصراع الداخلي، ووجهة تطمين المتوجسين خيفة من المقاومة بأن نهرها سيكون نهراً للبنان كله، وأنه لن يستثمر سياسياً لرفد موقع “حزب الله” مع تشجيع المتوجسين أولاء على حفظ تماسك الجبهة الداخلية لتفويت الفرصة على رهانات العدو على الصدام الداخلي، وارجاء المحاسبة إلى ما بعد الحرب مع تشديد على استعداد “حزب الله” الاصغاء الى أي نقد أو مساءلة في المرحلة القادمة.

وثالث مستويات الخطاب فعل النقد السياسي الذي يبلغ في أحيان حد التجريح والتحريض. انصرف الأعم الأغلب من ذلك النقد إلى السياسة الأمريكية المتواطئة مع العدوان “الاسرائيلي” والشريكة فيه. وكثيراً ما عبر ذلك النقد عن نفسه في في صورة قدح في تلك السياسة وتشنيع عليها متوسلاً في بعض لغته مفردات السب والشتم، خاصة حينما يتعلق الحديث برمز تلك السياسة جورج بوش. أما بعضه، فانصرف إلى مخاطبة السياسة الرسمية العربية منتقلاً من معاتبتها، إلى استهجانها، إلى ذمها، فإلى التحريض عليها.

أما رابع تلك المستويات، وأشدها حضوراً في تلك الخطابات، فهو فعل الحرب النفسية على مجتمع العدو وقيادته السياسية والعسكرية وجنوده ومستوطنيه. وقد أبلى قائد المقاومة و”حزب الله” السيد حسن نصر الله بلاء استثنائياً في الكفاءة والدراية والاقتدار في مضمار هذه الحرب النفسية. حيث ضغط على أعصاب “الاسرائيليين”: حكومة وجيشاً ومستوطنين، وألقى الرعب في قلوبهم بما حملت خطاباته من تهديدات.

فعلى مدى شهر من الحرب ويزيد كان “حزب الله” الفريق الأكبر في صناعة القرار اللبناني الرسمي على ما لديه من تمثيل شبه رمزي في حكومة فؤاد السنيورة وفي توجيه دفة الأحداث والمواقف منذ مؤتمر روما وحتى صدور القرار 1701 والموافقة عليه. هل من دليل آخر أعظم على التألق من هذا؟