لم يعد خافياً أن موضوع “الدولة” بات عند المتولين عملياً شؤون منظمة التحرير الفلسطينية متقدم لديهم على سائر الثوابت الوطنية، مع أنه لم يكن من جملة الثوابت التي تأسست على الالتزام بها المنظمة غداة إقامتها سنة ،1964 وذلك على الرغم من أن الضفة الغربية وقطاع غزة لم يكونا محتلين يومذاك. والذي يذكر أنه عندما كلف مؤتمر القمة الأول أحمد الشقيري، ممثل فلسطين لدى الجامعة يومذاك، حددت مهمته بالاتصال بالدول الأعضاء والشعب الفلسطيني بغية الوصول إلى القواعد السليمة لتنظيم الشعب الفلسطيني وتمكينه من القيام بدوره في تحرير وطنه وتقرير مصيره. وقد جاء “الميثاق القومي” الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني الأول سنة 1964 خلواً من أي ذكر لإقامة دولة في الضفة والقطاع، برغم أن الضفة كانت وديعة لدى الأردن، والقطاع كان مداراً من قبل مصر دون أن يكون لها سيادة عليه.

ولم يأت غياب ذكر الدولة في “الميثاق القومي” نزولاً عند أحكام الأمر الواقع، وإنما عن إدراك واعٍ لطبيعة الصراع مع المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، ومعرفة بتاريخ الحراك الوطني الفلسطيني منذ انطلاقته الأولى. فالمؤتمر الوطني الأول، الذي عقد بالقدس ما بين 27/1/1919 4/2/1919 أكد الوحدة العربية، واعتبار فلسطين جزءاً لا يتجزأ من سوريا، وأن تكون سوريا ومن جملتها فلسطين مستقلة ومتحررة من جميع أنواع النفوذ والحماية الأجنبيتين. والمؤتمرون، وإن كان أصحاب التوجه القومي محدودين بينهم، إلا أنه لم يفتهم إدراك أنهم بقدراتهم الوطنية الخاصة مستحيل عليهم تقديم الاستجابة الفاعلة في مواجهة الحركة الصهيونية المدعومة من بريطانيا.

وفي مظاهرة موسم النبي موسى في ربيع ،1920 وفي تحد لسلطة الاحتلال، رفع الحاج أمين الحسيني صورة الملك فيصل بن الحسين ملك سوريا يومذاك هاتفاً: أيها العرب هذا ملككم. فاستقبلت الجماهير المحتشدة أمام بلدية القدس كلمته بالهتاف معلنة التزامها القومي وحرصها على الارتباط بالعمق السوري. وحين تقرأ مقررات المؤتمرات الوطنية السبعة، التي توالى عقدها حتى سنة ،1929 يتضح أن ذكر الدولة المستقلة عن عمقها العربي غاب عنها تماماً، في الوقت الذي أجمعت على رفض وعد بلفور وصك الانتداب، وداومت المطالبة بحق تقرير المصير. وكذلك هو الأمر في بيانات الأحزاب التي برزت على المسرح مطلع ثلاثينات القرن الماضي، إذ أكدت جميعها عدا حزب الدفاع المعارض التزامها بالوحدة العربية انسجاماً مع المناخ العام السائد في الشارع الفلسطيني.

وعندما شاع المنطق القطري في الوطن العربي غداة نكسة ،1967 وانعكس ذلك على ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، الذي عدّل في 17/7/1968 ليصبح “الميثاق الوطني”، لم يرد ذكر الدولة في الميثاق المعدل. وذلك على الرغم من أن قرار المنظمة بات في عهدة أصحاب التوجه القطري، المتحفظ غالبيتهم على الفكر والعمل القومي العربي. ولم يكن ذلك من قبيل بقاء القديم على قدمه، وإنما لأن الميثاق المعدل نصّ على اعتماد الكفاح المسلح سبيلاً للتحرير والعودة، والدولة في هذه الحالة مرهونة بتحقيق التحرير المنصوص عليه في الميثاق. ولم يأت ذكر “الدولة” في مقررات المجالس الوطنية الفلسطينية إلا بعد اعتماد برنامج النقاط العشر، والالتزام، وإن من غير إعلان، بنهج التسوية.

وفي كل تجارب التحرر الوطني كان التحرير سابقاً لإقامة الدولة، وإن أقامت بعض التجارب حكومة منفى فقد جرى ذلك في المرحلة الأخيرة من النضال حين غدا التحرير قاب قوسين أو أدنى، كما في التجربة الجزائرية. والذي يذكر في هذا السياق أنه في العام ،1966 خطب الشقيري قائلاً: “نحن لسنا طلاب حكم ولكننا طلاب تحرير” وأضاف موضحاً استحالة أن تقوم في الضفة الغربية دولة تمتلك مقومات الحياة، وأن كل ما يمكن إقامته مسخ دولة.

وكان ذلك يوم لم تكن الضفة الغربية وقطاع غزة محتلين، ولا كانت المستوطنات والطرق الالتفافية وجدار العزل العنصري تحتل ما يجاوز نصف مساحة الضفة وتمزق أوصالها. ولا كان القطاع محاصراً. ولا كان ميثاق المنظمة قد مسخ بشطب كل المواد التي تؤكد الالتزام بالثوابت الوطنية والقومية. ولا كانت الوحدة الوطنية تعاني الذي تعانيه. أو كان العمق القومي العربي مخترقاً على النحو الذي هو عليه اليوم. أو كانت الادارة الأمريكية مهيمنة على مقدرات الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وإذا كانت الدولة في الضفة سنة 1966 لا تجاوز كونها مسخاً، وكذلك كانت الحال فلسطينياً وعربياً ودولياً، فما هو مستوى “الدولة” التي يتحدث عنها الذين أدمنوا تقديم التنازلات في مفاوضاتهم بعد كل الذي جرى خلال العقود الأربعة الماضية؟!!.

ولا خلاف مطلقاً أن من حق الشعب العربي الفلسطيني أن تكون له دولة، باعتبار ذلك فرعاً عن حقه في تقرير المصير. غير أنه لما يزل بعيدا عن امتلاك مقومات تمكينه من فرض إرادته في تقرير مصيره. وتحقيق طموحه بالدولة رهن بتقدمه على طريق تحرير ترابه الوطني المحتل، ودون ذلك توظيف لطموحه المشروع بأن تكون له دولة في استكمال عملية التنازل عن ثوابته الوطنية، بتمرير صفقة التنازلات الفلسطينية والتطبيع العربي في لقاء أنابولس، مقابل الإعلان عن “دولة” هي دون المسخ بكثير، الغاية منها تسخير إمكانات وقدرات القائمين عليها في حماية أمن “إسرائيل” وفق اشتراطات “خريطة الطريق”، تحسباً من ردة فعل من يراد التفريط فيما تبقى لهم من حقوق. وأن يتم ذلك باسم المنظمة فتلك هي الخديعة الكبرى، لأن المنظمة إنما أقيمت بقرار وطني فلسطيني وقومي عربي للتحرير والعودة وليس لدولة دون المسخ.
"الخليج"