بعد أن انفض "مؤتمر" أنابوليس، اصبح بالامكان تقييمه ووضعه في ميزان الربح والخسارة، بعيدا عن اتهامات التخوين والتفريط، وعن القمع والادانة للمعارضة ومنع المسيرات والاجتماعات والمؤتمرات المناهضة لانابوليس بما فيها المؤتمرات الصحافية الذي اقدمت عليه الحكومة الفلسطينية، وانما على أساس وضعه في مشرحة طبيبها الجراح ومبضعها يعتمد على فهم ان السياسة هي فن افضل الممكنات، وان الامور تقاس بالصح والخطأ وبصورة نسبية لا مطلقة.

اي قراءة موضوعية لما حدث في أنابوليس يخرج صاحبها بأن الفلسطينيين، والرئيس ابو مازن تحديداً حققوا ما يلي:

- عادت القضية الفلسطينية الى صدارة الاجندة الدولية بعد ان عانت من التهميش طويلا.
- فك العزلة السياسية الدولية عن السلطة الوطنية.
- إسقاط المقولة الاسرائيلية عن غياب الشريك الفلسطيني.
- استئناف المفاوضات بدلا من المجابهة خصوصاً بعد ان اخذت شكل الحرب العسكرية المناسب لاسرائيل.
- عزل وإضعاف حركة حماس التي بدت خصوصاً يوم اجتماع أنابوليس في وضع لا تحسد عليه.
- "نجاح" أنابوليس يفتح طريق تدفق الاموال على السلطة لسد العجز في الموازنة ويساعدها على بناء المؤسسات، خصوصاً المؤسسات والاجهزة الامنية.
- المشاركة العربية الجماعية أعطت القيادة الفلسطينية غطاء عربياً يساعدها على تحمل عواقب أنابوليس.

ان الانجازات الفلسطينية في أنابوليس لا تظهر على حقيقتها ومدى محدوديتها الا عندما نرى ماذا حققت اسرائيل، وتحديداً رئيس حكومتها ايهود اولمرت.

* لقد ظهرت اسرائيل في أنابوليس، ورئيس حكومتها اولمرت كصانع سلام خلافاً للحقيقة كصانع حرب ودمار وموت وحصار واستيطان وجدران الفصل العنصري والضم والتوسع، بدليل ما جرى ويجري على الارض الفلسطينية المحتلة يومياً قبل وأثناء وبعد أنابوليس. كذلك ظهر بوش كصانع سلام رغم ان يديه ملطختان بدماء العراقيين والافغان.

* مشاركة اسرائيل بأنابوليس من خلال مؤتمر تقوده الولايات المتحدة الاميركية حليفة اسرائيل الاولى والداعم الاكبر لها، تقطع الطريق على نشوء فراغ يمكن ان تملأه مبادرات اخرى عربية او دولية، وتبعد خطر القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية وصيغة المؤتمر الدولي الفعال كامل الصلاحيات الذي يشهد مفاوضات حقيقية وله قدرة على التدخل، ولا يكون الحضور فيه مثل الحضور في أنابوليس، مجرد "شاهد زور" وانما يكون حضورا فاعلاً مقررا.

* بمقدور اولمرت الان ان يستخدم احياء عملية السلام والمفاوضات دون مرجعية واضحة وملزمة، للتغطية على استمرار واستكمال سياسة خلق الحقائق الاسرائيلية على الارض، حيث لم تتضمن الوثيقة المشتركة اية مطالبة بوقف العدوان والجدار والاستيطان فورا، ولا اية مرجعية باستثناء خارطة الطريق، ودون النص على التطبيق المتوازي للالتزامات الواردة فيها، بعد ان رفض اولمرت استخدام هذه الكلمة بالوثيقة المشتركة ما يدل دلالة قاطعة على أنه سيعتمد القراءة الاسرائيلية لخارطة الطريق.

* "ان نجاح" "مؤتمر" أنابوليس يكرس الانقسام في الساحة الفلسطينية، ويمكن ان يعمقه أكثر بعد ان وضع اولمرت شرطا جديداً على أبو مازن هو: ان عملية المفاوضات لا يمكن ان تتقدم دون مكافحة واجتثاث الارهاب ونزع الاسلحة والاجنحة غير الشرعية بما يتضمن فرض سيطرة السلطة على غزة، وهذا امر ليس في متناول اليد، وسيبقى في حكم المجهول، بما يعطي لاسرائيل ورقة للمماطلة والابتزاز، الا إذا اختارت قوات الاحتلال ان تقوم بالمهمة لصالح السلطة، وهذا امر مستبعد، وإذا حصل ستدفع السلطة ثمنه غالياً جداً اسرائيلياً وفلسطينيا.

* المشاركة العربية الواسعة في "مؤتمر" أنابوليس يمكن ان تفتح الباب لقيام تحالف اميركي-اسرائيلي-عربي ضد ايران، كما تزيد من فرص نجاح دعوات ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية لتطبيع العلاقات العربية مع اسرائيل في موازاة تقدم المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية بدلا من انتظار تحقيق السلام والانسحاب من الاراضي العربية المحتلة.

* ان استئناف المفاوضات وعملية السلام يمنع انهيار السلطة ويقوي من المعتدلين الفلسطينيين، لان عدم الحل سيفتح الباب لانهيار السلطة، ولزوال اسرائيل-كما صرح اولمرت بعد أنابوليس- لان حق التصويت المتساوي في الدولة الواحدة سيؤدي الى ان تكف اسرائيل عن كونها دولة يهودية. فاسرائيل تريد بقاء السلطة الفلسطينية، شرط ان تبقى ضعيفة وتحت رحمة اسرائيل، وأن تبقى ملتزمة بالمفاوضات كأسلوب وحيد لحل الصراع، لان وجود السلطة يعفي اسرائيل عن مسؤولياتها كدولة احتلال، ويمكن من تفاوض اسرائيل معها لمدة طويلة عبر وضعها تحت الاختبار والعمل على ترويضها لكي توافق في النهاية على الحل الذي تفرضه اسرائيل على الارض او تتعايش معه على الاقل. وهو حل الدولة الفلسطينية ذات الحدود المؤقتة، التي لا تملك من مقومات الدول سوى الاسم. لذلك شدد اولمرت في كلمته في أنابوليس على عبارة خارطة الطريق بكل مراحلها. فالمرحلة الثانية فيها تنص على إقامة دولة ذات حدود مؤقتة.

* ان احياء عملية السلام والمفاوضات دون ان يدفع اولمرت شيئاً في المقابل، لا بالقضايا النهائية ولا الانتقالية، يمكن ان يمد بعمر حكومته كما دلت الاستطلاعات الاخيرة. فاولمرت لم يقدم شيئاً. اما السقف الزمني بانهاء الاتفاق مثل نهاية رئاسة بوش، فهو وارد بصيغة غير ملزمة. فبذل الجهد ليس مثل الالتزام القطعي. وفي كل الاحوال حتى لو كانت الصيغة ملزمة، فاسرائيل والادارات الاميركية عودونا على عدم الالتزام بالمواعيد، الم يقل رابين عبارته الشهيرة بأن لا مواعيد مقدسة.

تأسيساً على ما تقدم، فان اسرائيل والولايات المتحدة الاميركية، صاحبة الدعوة "للمؤتمر"، والجهة المخولة لمراقبة التطبيق (وهذا أمر لصالح اسرائيل ايضاً لان إدارة بوش ليست عادلة ولا متوازنة)، هما الرابحان الاكبران، لأن الانجازات الفلسطينية في أنابوليس محدودة وشكلية وتبدو كثمن بخس لاستئناف المفاوضات التي ستدور من أجل المفاوضات، وضمن مرجعية فعلية يراد لها أن تكون خارطة الطريق وفقا للقراءة الاسرائيلية وورقة الضمانات الاميركية التي منحها بوش لشارون في نيسان عام 2004، ألم يتحدث اولمرت عن ورقة الضمانات هذه في كلمته؟ وألم يتحدث بوش واولمرت عن اسرائيل بوصفها دولة يهودية، وألم يظهر في أنابوليس في معظم الكلمات والاجواء والاهداف، ان تحقيق الامن الاسرائيلي هو الذي له الاولوية على أي شيء آخر؟ أية مفاوضات لا تقوم على اساس نزع الشرعية عن الاحتلال وتهدف الى انهائه لا يمكن ان تكون مفاوضات لصالح الضحية وانما لصالح الدولة المحتلة التي لا تدفع ثمن الاحتلال وغير مطالبة بانهائه فوراً.

ان المفاوضات التي تدور ضمن هذه المحددات ستكون مفاوضات عبثية وضارة جداً، ونتيجتها معروفة: إما الفشل والعودة الى الاصطدام مجدداً، وانما عقد اتفاق اسوأ من اتفاق اوسلو بكثير، وإما حدوث انفجار داخلي فلسطيني او انتفاضة فلسطينية ثالثة تكون أقوى وأشد من سابقاتها.

اتمنى أن أكون مخطئاً ولكن الامانة الوطنية والمهنية تملي عليّ ان اكتب ما اعتقد. اللهم اشهد أنني قد بلغت!!
"الأيام"