تأتي التسريبات الإسرائيلية الجديدة فيما يخص الإتصالات السرية التي تجريها تل أبيب مع دمشق في إطار التسابق المحموم من قبل أركان حكومة الدولة العبرية لخلق مواد ذات طبائع دعائية تحاول من خلالها كسب الرأي العام العالمي والمحلي الإسرائيلي على خلفية إخفاقاتها المتواصلة على أكثر من جبهة وبأكثر من صعيد.. حيث انكشاف هذه الحكومة أمام شعبها ومؤيديها، وتبين حجم هشاشتها وعدم مقدرتها على التعاطي ومستجدات الوقائع السياسية الدولية، وحتى الإقليمية، في ضوء تداعيات حربها الأخيرة على لبنان... الأمر الذي يستدعي خلق وقائع سجالية جديدة على الأرض تستطيع من خلالها حكومة أولمرت ممارسة العمل السياسي الدعائي في محاولة منها للنفاذ من استحقاقات المرحلة التي باتت تفرض نفسها على الساحة الإسرائيلية بشكل خاص، سيما وأن إسقاط حكومة أولمرت قد أضحى مطلبا شعبيا إسرائيليا بالمقام الأول..

وحيث أن هذه الحكومة قد فشلت في تحقيق الحد الأدنى من أهداف حربها على لبنان، وتحقيق الحد الأدنى من عدوانها على الأراضي الفلسطينية، وفشلها في تحقيق اختراقات فعلية فيما يسمى بمسيرة التسوية السياسية مع الفلسطينين... يكون للفعل السياسي الدعائي دوره خدمة للأجندة الإسرائيلية بالأساس على شكل خلق مادة إعلامية إعلانية يتلهى من خلالها الرأي العام المحلي والدولي، وحتى العربي، ولتكون مناسبة لكل الأحلاف والمحاور على الساحة العربية على مختلف توجهاتها واهدافها لممارسة السجال السياسي القائم على الأسس الإتهامية للبعض وللآخر... وهو ما تسعى اليه حكومة أولمرت بالظرف الراهن أقلها خلق شكل من أشكال التصدع في الجبهات والمحاور العربية وإضعاف إمكانية تحقيق إجماع عربي ما.. بمكان ما ..على قضية ما .. ويبدو هذا جليا أكثر اليوم، بما تشهده الساحة اللبنانية، ولتظهر دمشق على الساحة اللبنانية وكأنها تريد أن تعبر نحو مسيرة التسوية من خلال هكذا بوابة والمقصود طبعا إحراج القوى الممانعة في لبنان، والتي تظهر وكأنها حليفة لسوريا أو متضامنة معها.. .

كما أن المؤشرات الفعلية على الأرض تؤكد فشل السياسات الإمريكية في المنطقة وعدم مقدرتها على تحقيق أي من أهدافها هي الأخرى على المستوى الإستراتيجي، وعلى مختلف الجبهات العراقية والإيرانية وحتى اللبنانية، مما يعني بالمنطق الحسابي البسيط، وأمام هكذا فشل، أن معسكر الممانعة الإقليمية قد استطاع أن يحقق الكثير من الإنجازات، لعل أهمها الإبقاء على روح المقاومة الفعلية لمشاريع الهيمنة الأمريكية الإسرائيلية المتحالفة مع الكثير من قوى سياسية وأنظمة رسمية في المنطقة.. وبالتالي فإن صمود محور الممانعة لهكذا أطروحات ومشاريع قد استطاع أن يحبط رؤية أمريكا وإسرائيل للمنطقة بالتعاون مع ما يسمى بمحور الاعتدال العربي...


بكل الأحوال وحتى نعي حقائق الأمور لا بد من التوقف طويلا أمام دعوات أولمرت للقيادة السورية والتي بلغت ذروتها مع إعلان صحيفة «يديعوت أحرونوت» على صدر صفحتها الأولى، أن رئيس الوزراء إيهود أولمرت أبلغ الرئيس السوري بشار الأسد استعداده للانسحاب من الجولان المحتل ثمناً للسلام مع دمشق ولتخليها عن أحلافها مع إيران والمقاومتين اللبنانية والفلسطينية.

وقالت «يديعوت» إن أولمرت بعث برسالة إلى الأسد يصرّح فيها بأنه يعرف ما هو ثمن السلام مع سوريا، وأنه مستعد لدفعه، طالباً في الوقت نفسه الوقوف على مدى استعداد سوريا للوفاء بنصيبها من الصفقة، وهو، بحسب الصحيفة، التفكيك التدريجي للتحالف مع طهران وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية ووقف دعم «الإرهاب».

وهذا برأيي يؤكد ما ذهبنا اليه بالتحليل اعلاه... ولعل ما كشف عنه مراسل الشؤون السياسية في يديعوت، شمعون شيفر، أن بداية القصة كانت في اتصال هاتفي أجراه الرئيس الأميركي جورج بوش، مع أولمرت في الرابع والعشرين من نيسان الماضي، ليهنئه بولادة حفيدته وبذكرى «استقلال» إسرائيل التي صادف حلولها آنذاك وفقاً للتقويم العبري. إلا أن الاتصال البروتوكولي تحول إلى «أهم حديث يجريه الرجلان»، وفقاً لمصدر مقرب من أولمرت، حين قرر الأخير إثارة الملف السوري مع محاوره الأميركي، مشيراً إلى نيته «فحص إمكان استئناف المفاوضات مع دمشق، بعدما توصل إلى استنتاج مفاده انعدام فرص التوصل إلى اختراق سياسي مع الفلسطينيين». وبحسب شيفر، وافق بوش على ما طرحه أولمرت، ومنحه الضوء الأخضر للقيام بجس نبض الخيار السوري، موضحاً أن «إسرائيل دولة ذات سيادة، وأميركا لن تقف في طريقكم إذا نضجت الظروف لاستئناف المفاوضات مع سوريا».

ولعل الضوء الأخضر الإمريكي هذا القادم من بوش يخدم بالأساس السياسة الأمريكية كما اسلفنا التي حاولت تقويض النظام السوري إلا أنها فشلت في ذلك للكثير من الأسباب أهمها إخفاقها بتمرير المعادلة الشرق اوسطية الجديدة عبر البوابة العراقية ومن ثم عبر البوابة اللبنانية، ودائما عبر البوابة الفلسطينية، الأمر الذي باتت ادارة بوش على قناعة أنها لا تملك أدوات التغير الإنقلابي الحقيقي في المنطقة، مما يعني أنها تحاول امتلاك ادوات أكثر فعالية من الممكن ان تؤتي ثمارها تكون على الشكل الدبلوماسي السياسي الدعائي...

ولا يعني هذا الطرح الذي اسميه دعائي أنه غير قابل للتنفيذ ... بل من الممكن بالفعل ان تمضي إسرائيل في صفقة التسوية السياسية مع سوريا، وحتى وفقا للأثمان المراد تحقيقها لكلا الطرفين... وهذا يظل برسم تصرف قيادة النظام السوري تجاه الدعوات والمماحكات الإسرائيلية السياسية هذه، واعتقد أن القيادة السورية لابد لها من ردود منطقية وفعلية اتجاه اللعب السياسي الإسرائيلي هذا، حتى لا تظهر اسرائيل بمظهر من يريد السلام وسوريا من ترفضه... وبالتالي يصبح كل شيء مبرر لإسرائيل أمام الرأي العام الدولي... مع أهمية الملاحظة أن أولمرت وحكومته لا يستطيعان صناعة ما يسمى بالسلام ولا يقويان على ممارسة فعل التسوية السياسية.. وبالتالي يبقى السؤال الأهم اذن.. لماذا أتت هكذا دعوات في الوقت الذي يشاع فيه الكثير من الكلام عن استعدادات اسرائيلية لشن الحرب على سوريا..؟؟

بتصوري فإن الاستعدادات لشن الحرب على سوريا لا يتناقض بالأساس مع دعوات أولمرت السلامية، بل إنها قد تكون جزء من تهيئة المسرح الإقليمي لهذه الحرب التي يُعتقد أنها ضرورية لإسرائيل وحكومة أولمرت وللجيش الإسرائيلي بذات الوقت، بل ربما تكون ضرورية لأمريكا ذاتها خدمة لسياساتها في المنطقة ولتقويض عرى التوافق الإيراني السوري، وهذا الذي تراهن عليه إدارة بوش من خلال البوابة التسووية الإسرائيلية السورية، أو من خلال الحرب الإسرائيلية على سوريا مع العلم أن إدارة بوش تحاول استثمار ما يجري في لبنان لحساباتها الخاصة وتحديدا اتجاه فتح معركة ما يسمى بمحاربة الإرهاب الأصولي القاعدي الممتد الى لبنان، للتدخل أكثر بالشأن الداخلي اللبناني والتأثير بمعادلته السياسية والسيادية... وذلك من خلال الإمعان بإتهام سوريا بالوقوف وراء تقويض أركان الحكم اللبناني كجزء من محاولة تضييق الخناق على النظام السوري، وهو الأمر الذي يستوي معه ما يسمى بتحريك ملف التسوية على المسار السوري الإسرائيلي، أو فيما يخص تسخين الجبهة الحربية السورية الإسرائيلية... وكل هذه القراءة لا تنفصل عن الواقع الإقليمي بالظرف الراهن....

وفي المشهد الخلفي لمبادرة أولمرت يبدو أن رئيس الحكومة الإسرائيلية قد توصل إلى استنتاج مفاده أنه إذا كان يرغب في الحفاظ على منصب رئاسة الحكومة، فإن عليه وضع هدف سياسي قابل للتحقيق، وخاصة أنه يعتقد بعدم إمكان التوصل إلى اتفاق على المسار الفلسطيني في المستقبل المنظور، فيما حصيلة المبادرة السعودية كانت خيبة أمل إسرائيلية (بعد ما تبيّن أن السعوديين غير مستعدين لإقامة علاقات علنية مع إسرائيل). وبالتالي جاءت دعواته الأخيرة اتجاه السوريين التي قد تتحول الى عمليات حربية وبالتالي وبكلا الظرفين يكون أولمرت قد وضع أمامه ما يمكن العمل عليه سياسيا على المسرح الإقليمي، الأمر الذي من الممكن أن يساعده بمعاركه الداخلية له ولحزبه...

يبقى أن نشير إلى أن الأرقام تتحدث عن نفسها التي جاءت على شكل استطلاع للرأي نشرت صحيفة «معاريف» نتائجه قبل ايام حيث اظهر هذا الإستطلاع أن 88 في المئة من الإسرائيليين يرفضون الانسحاب الكامل من الجولان في مقابل سلام مع سوريا. وقال 74 في المئة من المستطلَعين إنهم لا يصدقون الدعوات السلمية السورية، فيما أعرب 76 في المئة عن ثقتهم بقدرة الجيش الإسرائيلي في حال حصول حرب مع سوريا. وتوقّع 37 في المئة نشوب حرب كهذه، في مقابل 47 في المئة استبعدوا هذا الاحتمال...