1. من بؤس الإحتفال الرسمي العربي بفك الإرتباط وفداحة الإحتفاء بشجاعة شارون أن وجههما الآخر شباب يهجمون بالآلاف على خرائب مستوطنات. يبدو الهجوم بداية كأنه يعيد ويستعيد الهجوم على الباستيل أو على قصر الشتاء، ولكن ما أن يصل حتى ينقلب فوراً ودون تدريج من إغارة إلى نوع من الحيرة والإرتباك... يجدون خراباً وركاماً فيقفون وينظرون ويصفنون، لا شيء، عدم. فجوة كبيرة بين ضجة وفوضى الهجوم وهزالة الموقف الذي يقفه. كم كان المشهد معبراً. تدفق بشري تعقبه وقفة، ثم ماذا نفعل؟ لا شيء. ليس هنالك ما يمكن فعله. لا قصور صدام ولا قصور سان بيترسبورغ.
لا يوجد شيء يستحق الذكر في مناطق الإستيطان الإسرائيلي. تركوا أفخاخاً وقنابل سياسية موقوتة على شكل كنس بنمط البناء الإستيطاني لا تشبه قصوراً ولا كنائس، أبقاها شارون لكي يعبث بالحالة الفلسطينية، فإن أبقاها الفلسطينيون يكونوا كمن أبقى مسمار جحا، وإن هدموها ساووا بينها وبين هدم المساجد منذ النكبة... وهي مقابلة حاضرة ومقارنة ناجزة في سياقات راهنة تساوي بين المحتل والواقع تحت الإحتلال، بين كنس المستوطنين ومساجد الأصليين.

إزاء ما نظم وتفجر عفوياً من إحتفال بتحرير غزة، وإزاء الحفاوة التي استقبلت شارون في الأمم المتحدة حتى ارتعش صوته لعكس سبب الاحتفال بالضبط، أعلن شارون أنه مستمر في بناء الإستيطان رغم معارضة الولايات المتحدة. ولكي نفهم العلاقة بين الحفاوة والخطاب الديني اليهودي الأصولي الذي تخلل خطابه وبين ارتعاش صوته تأثراً وهو المنبوذ في هذه المحافل حتى فترة وجيزة يبدو أنه لا بد من العودة إلى الأساسيات. كانت الغيبية سمة خطاب شارون الذي بدأ بسفر التكوين مروراً بالقدس زحفاً زحفاً نحو الأبد... إحتلال "الأبد" و"الأزل" لتصبح مجرد خدم عنده. وتتمخض عن إستخدامها مقولات سياسية باتت مشروعة فجأة على منصة الأمم. هذه المنصة الواقعية البراغماتية تصفق كما يبدو للأبد وللغيب ولانعدام الواقعية إذا تطلبت الواقعية ذلك.

في خطابه يوم 15 أيلول أمام هيئة الأمم لم يكتف شارون بالحديث عن نفسه كمزارع "تحول إلى مقاتل رغما عنه"، ولا بالحديث عن أهله "الذين جاؤوا ليفلحوا الأرض لا ليسلبوا أحدا أرضه"، (من يدري ربما وجدوا دولة بالصدفة خلال فلاحتهم للأرض)، ولم يكتف بالحديث عن حق اليهود التاريخي الديني التوراتي "على البلاد"، وذلك خلافا لحق غيرهم "في البلاد" ( إنتبه للفرق!! الفرق واضح بالعبرية على الأقل التي استخدمها في خطابه)، ولم يكتف بالبدء بخمسة آلاف عام و بمجيئه "من القدس عاصمة إسرائيل الأبدية"، بل استثمر أيضاً كما هو متوقع خطة فك الارتباط لغرض براغماتي ألا وهو رمي الكرة في الملعب الفلسطيني.

يعلمك شارون أن البراغماتية والغيبية متشابكان في نظر العقلانية والحداثة الإسرائيلية التي تبدو منتصرة ليس على العرب، بل على الأصولية واللاعقلانية العربية. كأننا في صراع حضارات. ولا حضارات ولا يحزنون. الحضارات لا تتصارع بل البشر. وعندما تخدم الغيبية هدف البشر العيني تصبح براغماتية والعكس صحيح. إنهما يتبادلان باستمرار، أدوار الهدف والوسيلة في أداتية العقل وفي سياسات القوة. ولا علاقة بين النجاح ومدى عقلانية الخطاب، بل العلاقة هي بين النجاح والقوة. والعقلانية متمثلة في العلم وبناء المؤسسات والحداثة هي من عناصر القوة.

الغيبية الإسرائيلية منتصرة في مقابل غيبية مهزومة "شرشوحة" بلا مؤسسات، تفرط في العقلانية أكثر مما يلزم لتبرير تقبل الهزيمة وضعف الإرادة، وتغدو غيبية عندما يدور الحديث عن بناء مؤسسات وديموقراطية ومجتمع حديث. تحولت الغيبية الرسمية العربية إلى براغماتية رسمية مطلقة مفصولة عن القيم، وتحولت الأخيرة اليتيمة من السياسة إلى غيب مطلق ترك للشارع يعبث به.

يجلس العرب ويستمعون لشارون ولا ندري هل يلعنون في السر من حرمهم من الإستماع إليه من قبل أم يلعنون الذي كان السبب في جلوسهم للإستماع له. ولفهم ما يجري لا بد من العودة إلى أساسيات منسية.

ومنها أنه كما ساهم قيام إسرائيل في تعميق التخلف العربي والإستثنائية العربية، وكما تمخض إستمرار حالة القضية الفلسطينية منذ عام 1948 عن الحالة العربية المهترئة، كذلك لا تحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً خارج جهود حل القضية العربية. التسوية ممكنة بانفصال عن القضية العربية وبالتسليم بتعقيداتها، ولكن ليس الحل العادل. والعدالة ليست مسألة غيبية، بل هي قيمة. وتطبيقها في السياسة والتاريخ يكون نسبياً طبعاً، ولكنها تتخذ سمة الإطلاق: إما كل شيء أو لا شيء عندما تتخلى عنها السياسة المهيمنة بشكل مطلق، فتتحول هي إلى معارضة مطلقة تنجب بدورها أشكالا من غياب العدل. لا يوجد حل عادل بشكل مطلق حتى لقضية عادلة، ولكن من ناحية أخرى لا يجوز أن يغيب العدل عن حل قضية عادلة.

لا تفرز الحالة العربية الحالية حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية ولا يمكنها ذلك. وبالعكس فهي تسعى ببراغماتية متناهية أن تقنع الفلسطينيين بقبول ميزان قوى هي جزء منه، وبقاؤها مرهون بقبوله والخضوع لإبتزازه.

وفي ظل هذا المزاج السياسي، وفي ظل هذه الحالة يتم تصوير الإنسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة كجزء من خارطة الطريق التي تحولت بدورها إلى مطلب رغم أن مؤلفها قد فسرها تفسيراً إسرائيلياً عبر رسالة الضمانات التي وجهها إلى شارون. وفي ظل هذا المزاج السياسي يتم إستقبال شارون في الأمم المتحدة في أيام صبرا وشاتيلا كمن قدم "تنازلات مؤلمة".



2. لا بد أن نفهم أن هذه جميعاً من مظاهر تفاقم قضية عربية غير محلولة. ولا أقصد أن حلها يتطلب بالضرورة إنجاز الوحدة العربية أو حق هذه الأمة في تقرير مصيرها. ماذا؟ حق تقرير المصير للأمة العربية؟ ولكن لم يكن لها في الماضي دول عربية موحدة. هذا ليس الرد الصحيح فغالبية الأمم التي أقامت دولاً لم تملك دولة موحدة في الماضي. أو تشكلت حديثاً. ولا توجد أسباب منطقية نظرية لعدم تمكين العرب من إقامة دولتهم القومية الموحدة التي يشكلون فيها أغلبية، كما لا توجد أسباب نظرية منطقية لتمكينهم من ذلك. الكثير من الدول موجود دون سبب منطقي نظري مبني على تعريف نظري للقومية، وكذلك لم يتسن لبعض الأمم إقامة دول، وتسنى لبعض الدول إقامة أمم. وكل ذلك ليس لأسباب منطقية ونظرية. هنالك في الحالتين أسباب تاريخية وعملية. ولذلك نحن لا نقصد حلاً نظرياً للقضية العربية بل حلولاً سياسية عملية في سياق الظروف التاريخية المحددة.

ولا يتم البحث عن حلول للقضية العربية من أجل حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً، أو لنوفر على أنفسنا شكل العرب وهم يستمعون إلى شارون. فهذا كلام فارغ يذكر بمن يطالب بحق المرأة بالمساواة مع الرجل لأن المرأة ساهمت في المعركة ضد الإحتلال، أو لأن ذلك يساعد المجتمع في معركته ضد إسرائيل، وذلك بدل القول أن المساواة قيمة إنسانية وضرورة لتحقيق العدالة الاجتماعية.

لا حل عادل للقضية الفلسطينية دون حل القضية العربية. هذا تحليل. ولكن الموقف يجب أن يكون حل القضية العربية من أجل العدالة والحرية والديموقراطية في المجتمعات العربية.
لم تتجل هذه الأمور بهذا الوضوح كما تبدو حالياً وسط هذا الركام العربي. ولا يجوز أن يكون التخلي عن الهوية العربية أو التساؤل عما تعنيه حالياً هو الإستنتاج من حالة الإنهيار. بل التساؤل هو لماذا تنكر الهوية العربية ويتم التأكيد على غيرها، ويتم الإستماع باهتمام إلى حديث شارون الأصولي الأسطوري عن خمسة آلاف سنة لم ينقطع فيها الوجود اليهودي على أرض فلسطين؟ لن نفند الأسطورة نظرياً. ولكن تكرارها يذكر بموقف المستمعين من العروبة كأنها أسطورة. ونحن ندعي فقط أن حالة الإنهيار الحالية تتعدى الأسطورة العربية إلى نسيج الدولة الوطنية، في كل مكان تقريباً، وأن هذا دليل على فداحة تجاهل وجود قضية عربية.

الظواهر التي نشهدها حالياً من محاولات للتطبيع مع إسرائيل أو قراءة شارون كأنه ديجول جديد وتهنئته على أفكاره الشجاعة، هي تعبيرات عن القضية العربية وليست خيانة للشعب الفلسطيني. فليس هنالك عقد زواج بين القيادات الرسمية العربية والشعب الفلسطيني. والتضامن معه في حالتها هو أسطورة مثل مقولة التضامن العربي الرسمية. فقد تراوح موقف الأنظمة العربية من قضية الشعب الفلسطيني بين استغلالها داخلياً لأغراض الديماجوجيا الوطنية الكاتمة للصوت الإجتماعي والديموقراطي وبين الإيمان الفعلي أنها قضية العرب الأولى ورفع هذا الإعتقاد إلى مصاف الأيديولجيا، بين الرومانسية المتمخضة عن إلتهاب الجرح العربي والإنتهازية البراغماتية وتبادل الأدوار بينهما من جهة، وبين إدراك عمق تفاعل الناس مع القضية الفلسطينية من جهة أخرى، وهو تضامن حقيقي وتعويضي في آن معا. وهو حقيقي وتعويضي لأن القضية الفسطيينة كانت عربياً موضوع تضامن حقيقي، ولأنها كانت في الوقت ذاته الصيغة، اللغة التي صاغت فيها الجماهير بشكل شرعي شكواها من الأوضاع القائمة. من هذه الناحية لعبت شرعية الخطاب حول القضية الفلسطينية وتصدير التناقضات الإجتماعية وترجمة كافة لغات المعاناة إلى اللغة الفلسطينية دور شرعية الخطاب الديني وشرعية المسجد في سياقات أخرى.

ولم تعد القضية الفلسطينية قادرة على لعب هذا الدور. أولا لأنها باتت في اتكالها على حسن نية أميركا كاستراتيجية وحيدة جزءاً من الحالة العربية الرثة إلى درجة فقدان الهيبة. فقد باتت تتعرض للنقاش الذي كانت فوقه بل تمتصه وتحتويه كما تتعرض القيادات العربية. وثانياً لأن القضية العربية تفاقمت إلى درجة أن التناقضات المختفية خلف القضية الفلسطينية باتت تفوقها دموية واهتماماً دولياً وإقليمياً. كانت القضية العربية جوهر القضية الفلسطينية بشكل غير مرئي يتجلى في التحليل النظري فقط، أما حالياً فقد تجلت هذه الحقيقة بكل دمويتها. وكانت إسرائيل دائما تدعي أن القضية الفلسطينية ليست جوهر الصراع في المنطقة بل طبيعة الأنظمة العربية. ويبدو أن أميركا تبنت هذا الموقف الإسرائيلي التاريخي. ولكن الحقيقة التي يجب وضعها على أرجلها أن طبيعة الأنظمة وليس القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع في كل بلد عربي. أما جوهر الصراع مع إسرائيل فهو القضية الفلسطينية، ولكن فقط كجزء من القضية العربية. وإذا فصلت عنها ووضعت بأيدي الأنظمة هان قبول الإملاء الإسرائيلي بموجب موازين القوى كأنه تسوية.

من أجل القيام بالمهام الديموقراطية ومهام التحديث في الوطن العربي يفترض أن يدرك من يريد الإطلاع بهذه المهام أن هنالك قضية عربية. وهذا أحد الفروق بين أجندة الديموقراطية العربية والأجندة الإستعمارية ومروجيها المحليين. ليس من الضروري أن تحل هذه القضية العربية حلاً وحدوياً، إلا إذا كان ديموقراطياً بين ديموقراطيات تعتمد المواطنة المتساوية. وفي كافة الحالات يجب ويمكن حلها داخلياً بوعي وجود الجماعة السياسية العربية التي تحمي من الجماعة السياسية الطائفية ومن الجماعة السياسية العشائرية والإقليمية. وحتى التوافقية والفدرالية في مثل هذه الحالة تجوز بين العرب وغيرهم بشرط أن يعترف بجماعة سياسية عربية.

تتجلى القضية العربية حالياً بإعلان رسمي أميركي يحمله تدخل عسكري سافر بضرورة نزع الثقافة العربية كجامع ذي طابع قومي سياسي عن الشعوب العربية وتحويل الطائفية إلى طائفية سياسية رسمية، ووضع علامة سؤال على الرابط السياسي بين الدول والشعوب العربية، كما تتجسد القضية العربية بهيمنة نموذج الدولة الريعية التي تعتمد بدرجة كبيرة على العائدات من الخارج دون استثمار كبير للعمل الإجتماعي، وعلى بيع سلعة مثل النفط أو الأيدي العاملة أو الخدمات السياسية. والريعية رابط معترف به بين العرب ويتم تشجيعه إلى درجة الموافقة عليه كرابط سياسي بينهم. والنفط عائق حقيقي أمام التطور الديموقراطي، وأساس حديث للإقطاع السياسي ولتكريس الدولة السلطانية داخل الحدود الإستعمارية... ومن تجليات القضية العربية حالياً الإعتماد الرسمي الكامل على أميركا كما كان الحال مع بريطانيا وفرنسا في الأربعينيات، حتى بات إسم السفير الأميركي في أي دولة عربية معروفا أكثر من أسماء وزرائها. (ولا بأس من وضع تحد أن تتم المقارنة إحصائيا بين معرفة إسم السفير الأميركي لدى الجمهور الواسع في الدول العربية وأي دولة أخرى في العالم. ولا اقصد دولا مثل فرنسا حيث لا يعرف إسم السفير الأميركي أحد غير المختصين، بل أقصد دول العالم الثالث). والآن باتت القضية العربية تتجلي بالتأرجح من المزاودة على الشعب الفلسطيني إلى القول "إننا لن نكون أكثر فلسطينية من الفلسطينيين" عند الحديث عن التطبيع مع إسرائيل. ليس هذا التطبيع مشكلة الفلسطينيين بل هو تعبير عن مشكلة العرب، عن القضية العربية، مثل تعبيراتها الأخرى المذكورة أعلاه تماما مثل غياب الديموقراطية، ومثل غياب العدالة في سياقات أخرى.