بالنتائج الموجعة التي أفضى إليها العدوان الثلاثيني بقيادة أمريكية على العراق عام 1991، كان واضحاً أن القضية الفلسطينية قد دخلت منعطفاً خطيراً، ذلك ليس فقط لإن الفلسطينيين ناصروا العراق في تلك الحرب كما يحلو للبعض التفسير، بل أيضاً، وبالأساس، لأن وقوع ذلك العدوان ونتائجه كانا قد عبّرا عن ميلاد معطيات خارجية جديدة أحاطت بالقضية الفلسطينية، وقد تبدى ذلك على ثلاثة مستويات متداخلة:

1: دوليا، حيث إنهار القطب السوفييتي من معادلة السياسة الدولية وقراراتها، وهو القطب الذي كان القطب المُعادل للقطب الأميركي المعادي بوضوح وعلانية وسفور للقضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في العودة والحرية والاستقلال.

2: قومياً، حيث شاركت الأقطار النافذة في النظام الرسمي العربي في الحرب على العراق كمقدمة لإنخراط ما تبقى من "دول الطوق" في مشروع التسوية الأمريكي، أي في مشروع التفاوض المباشر والمنفرد مع إسرائيل تحت الرعاية الأمريكية.

3: إسرائيلياً، حيث انتعشت الأحلام التوسعية والعدوانية لحكام تل أبيب، خاصة بعد نجاحهم في استجلاب موجة هجرة كبيرة غير مسبوقة من اليهود الروس.

شكلت المعطيات آنفة الذكر إيذاناً بميلاد ميزان قوى جديد يتحكم بالقضية الفلسطينية، ويُلزم المتحدث بإسمها، بمعزل عن لونه، بالتعامل معه، شاء ذلك أم أبى، ذلك أن السياسة في نهاية المطاف، وفي كل الأحوال، ليست إلا تعاملاً مع الظروف والمعطيات الواقعية، بصرف النظر عن الإرادة التي، وإن كان عليها التعامل بصلابة مع المعطيات، فإن عليها التصرف معها بحكمة أيضاً، ولعل من شأن السلوك الأحادي الجانب على هذا الصعيد أن يقود الى إحدى خطيئتين:

الأولى مغامرة إرادوية، لا ترى الوقائع المستجدة درجة القفز عنها كما لو كانت غير موجودة، الأمر الذي يقود بالنتيجة العملية، بصرف النظر عن النوايا، إلى تدمير الذات وتبديد الإمكانيات.

الثانية رضوخ للمستجد من الوقائع المجافية وعدم العمل على صب الجهد والإمكانيات المتاحة في بوتقة السعي للتغلب على هذه الوقائع، ولو بصعوبة وتدرج وقسوة.

في جحيم النتائج الموجعة للعدوان الثلاثيني بقيادة أميركا على العراق عام 1991، وما ترتب عليها من مفاوضات عربية وفلسطينية مباشرة ومنفردة مع الإسرائيليين تحت الرعاية الأميركية، ولجت القضية الفلسطينية محطة من أقسى المحطات التي مرت بها، على الأقل، منذ محطة اشتعال الطور المعاصر من الثورة الفلسطينية، بعد عقدين من الضياع، عاشه الفلسطينيون عقب "النكبة" عام 1948.

لقد قادت المحطة الجديدة التي عاشها الفلسطينيون بعد العدوان الثلاثيني على العراق إلى إنطفاء جذوة انتفاضة العام 1987، وتدني حصادها السياسي، إنما دون أن ينجح قادة تل أبيب في فرض شروط الاستسلام على الشعب الفلسطيني، الذي، ورغم كل ما أحاط بقضيته من ظروف مستجدة قاسية وميزان قوى مجافٍ، عاد للإنتفاض من جديد في أيلول 2000، حينما تبين أن لا مفر من ذلك، بعد مفاوضات كامب ديفيد 2000 المفصلية، التي أكدت بأن قادة تل أبيب ليسوا على استعداد لدفع استحقاقات ايجاد تسوية سياسية للصراع، تفضي، ولو الى انهاء الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فقد أظهر عرض باراك في تلك المفاوضات، وهو العرض المدعوم أميركياً، أن قادة تل أبيب ما زالوا دون الإقرار بأن هنالك شعب فلسطيني له الحق في الحرية والاستقلال، ناهيك عن حق العودة، وأنهم ما زالوا مسكونين بوهم إمكانية احراز تسوية للقضية الفلسطينية، بإعتبارها مجرد معضلة لمجموعات سكانية غير يهودية ما زالت تعيش في الضفة وغزة، بل "على جزء من أرض إسرائيل الكاملة"، وأن كل ما هو مطلوب لحل هذه المعضلة، هو ليس أكثر من البحث في كيفية تلبية الإحتياجات المعيشية والإدارة الذاتية للشؤون المدنية لهذه المجموعات السكانية التي لم يكن بالمقدور التخلص منها، أي كمجموعات سكانية يشكل استمرار الاحتلال المباشر لها أمرا مكلفاً على كافة الصعد المادية والسياسية والأمنية والأخلاقية، فضلاً عما يشكله مجرد وجودها من عامل ديموغرافي متنامي يهدد "مقدس" "الطابع اليهودي"، الأساس الذي قامت عليه دولة إسرائيل، وبات هاجس صونه وتعزيزه والحفاظ عليه، أهم هواجس السياسة الإسرائيلية وتكتيكات قادتها وتصريحاتهم المعلنة، وكانت آخرها تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، ونائبه الأول، حاييم رامون، والوزير في حكومته، بنيامين بن أليعيزر، وكلها، على اختلاف صياغاتها، تشير إلى خشية أن عدم ايجاد حل تفاوضي مع الفلسطينيين، سيفضي عمليا إلى التقدم الموضوعي صوب حل "الدولة الواحدة" كما قال بينيامين بن اليعيزر، وإلى حل "الدولة ثنائية القومية" كما قال حاييم رامون.

لكن، وبرغم إشارة مثل هذه التصريحات إلى ما يمكن أن يفضي إليه صلف قادة إسرائيل من مكر للتاريخ، هو بالتأكيد أقسى من مكرهم، إلا أن أياً منهم لم يتجرأ بعد على التصريح بأن هناك شعبا فلسطينيا له الحق في الحرية والاستقلال والعودة، بل أكثر من ذلك، فإن أيا من هؤلاء القادة الإسرائيليين لم يكف عن ممارسة كل ما من شأنه دفن أية جهود لتسوية الصراع على أساس تنفيذ قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالصراع، بما فيها القرار الدولي 194 الخاص بحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

وهذا ما حدا بباتريك سيل، الصحافي البريطاني المرموق والمتخصص في شؤون الصراع العربي الإسرائيلي، وشؤون الشرق الأوسط عموماً، إلى الحكم بالموت على "حل الدولتين"، في مقالة كتبها بهذا الشأن مؤخرا، حيث يقول:

"إنه لأمر مفروغ منه أن حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي عبر قيام دولتين أصبح ضربا من الخيال. فالمشروع-هذا إذا كان مشروعاً حقيقياً ميت تماماً".

ويضيف: "حتى الآن، هناك مساحة 40% من الضفة الغربية تقوم عليها المستوطنات والمناطق العسكرية المقفلة والمحميات الطبيعية والطرقات المخصصة للإسرائيليين فقط والجدار الفاصل المُشيّد في عمق الأراضي الفلسطينية. أما الجزء المُتَبقّي من الضفة فمُقَسّم بإقامة مئات الحواجز. وأصبحت القدس الشرقية العربية، أي قلب فلسطين العربية، مفصولة بشكل كامل تقريباً عما تبقى من الضفة الغربية بحلقة من المسنوطنات اليهودية".

تلك هي الشروط الواقعية التي تتحرك فيها الحالة الفلسطينية في هذه المرحلة، وهي شروط غاية في الخطورة، ربما لم تشهدها منذ عقود، خلا ما عاشته في مرحلة ما بعد "النكبة" التي وقعت عام 1948، بل وأسوأ منها في بعض وجوهها، ولا يخفى على الجميع، بما فيهم باتريك سيل، عجز وعد بوش "بحل الدولتين" عن تجاوز هذه الشروط وتذليلها، فيما تبقى له من مدة في البيت الأبيض. والسؤال: هل فعلاً مات "حل الدولتين" كما يقول باتريك سيل؟؟؟؟ وهل فعلاً لم يتبقَ أمام قادة تل أبيب غير مجابهة مكر التاريخ، حل الدولة الواحدة، كما يخشى على التوالي كل من أولمرت وحاييم رامون وبن اليعيزر في تصريحاتهم الأخيرة؟؟؟

وبالمقابل، كانت حفنة من طلائع الشعب الفلسطيني وقياداته التاريخية قد ردت على قسوة محطة مرحلة ما بعد "النكبة" بإشعال فتيل الطور المعاصر من الثورة الفلسطينية، والسؤال: ترى مَن يتصدى للرد على هذه المرحلة الشبيهة وكيف؟!!!