بالرغم من الحضور المأساوي لإتفاقيات أوسلو والغياب المفزع لحركة التحرر الوطني كإطار جامع للوطنية والنضال الفلسطيني، وبالرغم من فوضى البرامج والمواقف الفلسطينية المتناقضة والمتحاربة أحيانًا، خصوصًا بعد محاولة الحسم العسكري في قطاع غزة.. ما زال بعض الشباب الفلسطيني من أبناء الجليل والمثلث والنقب يحاول التعبير عن إنتمائه الوطني من خلال الالتحاق بفصائل العمل الوطني والإسلامي الفاعلة في الأراضي المحتلة من عام 67، متجاوزين بذلك واقعهم السياسي والقانوني وخصوصياته، بما ينطوي عليه من حساسية وتناقض شديدين ليس بين مواطنتهم ووطنيتهم فحسب، وإنما بين ما يعنيه التحاقهم هذا من الناحية السياسية من جهة، وإقرار قيادة م.ت.ف بحل الدولتين من جهة أخرى. غير أن هذا 'الحل' الذي أصبح سقفه، بمعنى ما، سقف الإجماع الفلسطيني، قد استثنى الجماهير الفلسطينية في الداخل من أية رؤية مستقبلية، بل وبات الشرط الإسرائيلي المسبق لقبوله حتى بصيغته المشوهة، اعلان إعتراف القيادة الفلسطينية بيهودية الدولة ما يعني إغلاق آفاق النضال الوطني والمطلبي أمام هذه الجماهير.
 
لقد مرت في دهاليز السجون الإسرائيلية أعداد كبيرة من أسرى الداخل، وقد بلغ عديدهم المئات وخاصة خلال إنتفاضة الأقصى ممن نشطوا بصورة فردية أو التحقوا بفصائل العمل الوطني والإسلامي، وبقي منهم اليوم قرابة الـ 150 أسيرًا.
 
إن هذه الظاهرة ليست بجديدة في حياة فلسطينيي الداخل، فقد لازمت كل مراحل نضالهم الوطني، بصفتها تعبيرا عن رد فعل طبيعي لشعب غالبيته الساحقة تشرد من وطنه، وما زال قسم منه يقبع تحت الاحتلال، وتحديدًا لكونها تشكلت في الماضي في ظل شعار 'م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني'، وظلت تعبر عن ذاتها بأعداد قليلة نسبيًا من حين لآخر، لم يتجاوز بضع عشرات خلال العام الواحد.
 
 لربما كان ممكنا أن نمتنع عن مناقشة هذه الظاهرة، وأن لا ندخل لعمقها وتفاصيلها، وأن نبقيها بين مؤيد هو في الغالب صامت لأسباب يعرفها الجميع، أو لمعارض هو في الغالب مدين لها ومستنكر، ولكن أساسا من خلال المنابر الإعلامية الإسرائيلية وباللغة العبرية ولأسباب، أيضًا، يعرفها الجميع.
 
 لكننا نطرحها هنا على الحركة الوطنية كقضية للنقاش حتى تتخذ حيالها ليس موقفًا فحسب، وإنما اعتماد التدابير اللازمة والضرورية لمواجهتها، انطلاقًا، من المسؤولية الوطنية، لا سيما ونحن كجماهير فلسطينية في الداخل نقف على أبواب مرحلة، سيلعب هذا الجزء من الشعب الفلسطيني فيها دورًا هامًا ومركزيًا في التأثير وصياغة الموقف الفلسطيني، والمسؤولية الوطنية تقتضي منا أن لا نتخذ المواقف الشعبوية قصيرة المدى والنظر، بل أن نعد جماهيرنا وأن نوجه شبابنا وشاباتنا وأن نزودهم بالوعي والتجربة حتى لا تبدد طاقاتهم وروحهم المعنوية، بما لا يخدم قضايانا ومهامنا المركزية.
 
وعليه فإننا نسجل الملاحظات التالية:
 
أ‌)       ثمة ثمن باهظ ومكلف يدفعه هؤلاء المناضلون وأسرهم على الصعيد الإنساني، لا يوازي ما نجنيه منه كحركة وطنية، ولا يستقيم سياسيًا مع الجهد الواجب توظيف هذه الطاقة الشبابية والنضالية به، ما يستدعي منا المسؤولية والتحرك. فنحن القابعبين خلف القضبان منذ أكثر من ربع قرن، ندرك المعنى الحقيقي لهذا الثمن الإنساني، وسيكون من جانبنا سلوكًا إنتهازيًا غير مسؤول فيما لو إخترنا الصمت أو الاحجام عن وضع تجربتنا أمام شباب الحركة الوطنية، فنحن نعلم علم اليقين ومن خلال إطلاع مباشر على قضايا قطاع كبير من هؤلاء المناضلين، أن بعض تلك التهم والقضايا ملفق وبعضها مضخم، وبعض آخر لا يعدو كونه شركا وضعته الأجهزة الأمنية. وفي جميع الحالات، فإن السلطة وأجهزتها المخابراتية تستهدف أساسًا النشاط السياسي الواعي وتخويف الناس والجماهير من مغبة الالتفاف حول مواقف الحركة الوطنية ونضالها.
 
ب‌)    وإننا إذ نعرف هذه الظاهرة عن كثب، ونفهم التركيب النفسي لضحاياها، فنحن نعايشهم يوميًا وعلى مدار سنوات طويلة من الاعتقال، ندرك، أيضًا، الإحساس الثقيل الذي تولده مشاهد القتل والإبادة لشعب أعزل دون أن يكون قادرًا على فعل شيء. إن التناقض الحاصل بين إحساس هؤلاء الشباب بالإنتماء لشعبهم الفلسطيني وقضيته العادلة، وغياب إمكانيات التعبير السياسي المؤثر فعليا والقادر على الإسهام في رفع الظلم الغاشم، لهو أمر يقع ضمن مسؤولية الحركة الوطنية التي يتعين عليها، أولًا وقبل كل شيء، أن تستثمر هذه الطاقة في تصليب وبناء جسم الحركة الوطنية في الداخل، وثانيًا أن تستثمرها من أجل إعدادها لما هي مرشحة له من دور. فإذا كان من غير المنطقي أن نلوم السلطة لتضييقها هامش التعبير الوطني بالوسائل المتاحة والديمقراطية، فلا يمكننا تبرئة القوى السياسية في الداخل، وعلى رأسها الحركة الوطنية، من القيام بدورها والإفادة من الهامش المتاح والعمل على توسيعه لمنح الجيل الشاب دورًا عمليًا وأطرًا للتعبير.
 
لقد عايشنا هذا الشعور الذي تنامى في ظروف مختلفة، أهمها، كما أسلفنا، حضور حركة التحرر الوطني الفلسطيني كإطار جامع، فيما الظروف الراهنة مختلفة، وأهمها غياب الإطار الجامع، لكننا، في كلتا الحالتين، خلطنا بين الانتماء الوطني والانتماء الحزبي السياسي. وهذا تمامًا ما يجب على الحركة الوطنية أن توضحه في تعبئتها وتثقيفها. وبكلمات أخرى أكثر وضوحًا، كي تكون وطنيًا فلسطينيًا ليس بالضرورة أن تلتحق بفصائل العمل الوطني والإسلامي في الضفة والقطاع، ونعتقد بأن غياب الجهر بهذه اللغة الواضحة والمباشرة، والتي تقتضي منا التوجه للفصائل الفلسطينية وغيرها، كي تراعي هذه القضية وخصوصية واقع النضال في الداخل، يعود لعقدة نقص تعيشها الحركة الوطنية في الداخل.
 
إن تهاوي ثقتها بالنفس والتحاقها الأعمى لأمزجة عامة يعطل دورها ويحدّ منه، ليس في هذه الجزئية فحسب، بل أيضا من شأنه أن يحول دون إنطلاقها على الصعيد الوطني والقضية الفلسطينية بصورة عامة، والنجاح في قيادة المليون ونصف المليون فلسطيني في الداخل. هذا الأمر سنتعرض له لاحقًا، لكننا نود في البداية أن نشير إلى تطور خطير ومقلق لظاهرة المعتقلين من أبناء الداخل، مما يجعل معالجتها ضرورية وملحة والتنبه لها واجبًا وطنيًا، حيث بدأ في الآونة الأخيرة توافد أعداد من الشباب تجاوز عددهم العشرين شابًا إلى السجون. لم يعد بنظر هؤلاء الالتحاق بفصيل فلسطيني وطني أو إسلامي قادرًا على أن يمنحهم الشعور بالانتماء والمساهمة، لهذا وجدوا ضالتهم في الفكر الإسلامي الجهادي القاعدي حيث يكفرون من خلاله حتى الفصائل الإسلامية الفلسطينية وقادتها.
 
وهنا نتحدث عن شباب لا يسكنون في قرى نائية، وإنما مدنًا عربية مركزية وينتمون لأسر ناشطة ومسيسة. إن هذا التطور يستدعي من الحركة الوطنية أن تضاعف الجهد وأن تتحمل مسؤولياتها وأن تبادر في الخطو نحو هذه الفئات الشبابية التي تبحث عن انتمائها وهويتها في مراع غير مراعينا الوطنية الفلسطينية، وأن لا نكتفي بالبرامج والنشاط الإعتيادي التقليدي أو الموسمي.
 
ت‌)    إن التعامل وكأن ثمة مركزا وهناك ضواحي فيما يتعلق بصياغة الموقف والثوابت الوطنية الفلسطينية، ربما كان مفهومًا في مرحلة حضور حركة التحرر باستراتيجياتها وأهدافها، التي عبرت عن مواقف الغالبية الساحقة للقوى والفعاليات السياسية الفلسطينية، وبهيمنة الشعور الذي طورته الحركة الوطنية في الداخل وعبرت عنه بمواقفها ومواقف قياداتها على مدار سنوات طويلة، والنابع من أن هناك مركزًا فلسطينيًا، وأن هناك من 'يحج' إلى هذا المركز ويدور بفلكه، غير أنه الآن يجب أن يتم تبديده وتجاوزه كشعور وسلوك يعكس عقدة نقص، وإعادة النظر بفرضياته الأساسية كموقف سياسي؛
 
 أولاً- لأن ساحة الداخل باتت هي الساحة الفلسطينية الوحيدة الأكثر قدرة على بلورة موقف سياسي وإتخاذ قرارات جماعية ونضالية موحدة (الموقف من الشرط الإسرائيلي بشأن يهودية الدولة)، وهي الساحة الوحيدة التي تمتلك أطراً تمثيلية يتم تحت سقفها وفي إطارها حل التعارضات بين القوى والأحزاب العاملة فيها، رغم كل الملاحظات وما يمكن أن يقال بشأن هذه المؤسسات وأدائها فهي ما زالت قادرة على تشكيل مركز لفلسطينيي الداخل بعكس باقي الساحات الفلسطينية.
 
إن تجاوز هذه العقدة يمنح الحركة الوطنية مساحة أكبر في التأثير على صياغة الموقف الفلسطيني ودورا أساسيا في إعادة تشكيل المركز الفلسطيني العام كإطار تحرري جامع لكل القوى الوطنية والإسلامية.
 
ثانياً – ساحة الداخل ليست فناء خلفيًا للنضال الفلسطيني لا بأهميته السياسية والجغرافية أو تعداده السكاني، ولا بتاريخه وبنضاله، فمن الواضح بأننا أمام عملية سياسية لن تفضي إلى حل، وأن حل الدولتين بات يتلاشى ويحل مكانه واقع الدولة العنصرية الواحدة على كل فلسطين التاريخية، ليرافقه وبشكل تدريجي زاحف تعميم الممارسات والإجراءات الإسرائيلية وواقع الفصل العنصري الحاصل في الأراضي المحتلة على المناطق العربية في الداخل، مما سيحول المشهد الفلسطيني من النهر إلى البحر إلى مشهد متقارب، حيث ستوحد موضوعياً، ظروف الحياة والممارسات الإسرائيلية بين الفلسطينيين في جانبي الخط الأخضر، رغم بقاء الإدعاء في الاختلاف النظري القانوني قائماً، ومما يعني، أيضًا، توحيد وسائل النضال بما ينسجم ومواجهة دولة الأﭙرتهايد.
 
إننا وبكلمات أخرى مقبلون في الداخل على مرحلة نضالية جديدة. سنكون، بعد فشل حل الدولتين، جزءًا من حالة فلسطينية عامة، سيتطلب منا كحركة وطنية الإسهام أكثر بصياغة الوسائل والأهداف، متجاوزين أخطاء العقد الأخير وأهمها انخفاض سقف الأهداف وتقديس الوسائل. وفي نفس الوقت التأثير على إعادة تشكيل المركز الوطني الفلسطيني الجامع، بما يضمن أيضاً مصالح وآمال وطموحات جماهيرنا العربية في الداخل، أو بما يضمن عدم إغلاق آفاق النضال الوطني والمطلبي.
 
وأخيرًا، إن تحول الفاشية الى خطاب سياسي رسمي في إسرائيل، بل وإلى تشريع قانوني، لم يترك هامشًا ديمقراطيًا نعتذر بشأنه حين نعبر عن مواقفنا إزاء موقف أو قضية فلسطينية ما ونوجه إنتقادنا لممارسيها. علينا أن نتجاوز مقولة إننا 'لن نخاطبهم من هامش الديمقراطية الإسرائيلية' فهو هامش لم يعد قائمًا أصلا، كما لا نحتاج حتى نقدم فكرة أو طرحًا جديدًا 'لوكيل فلسطيني' بصفته حزبًا أو حركة سياسية فاعلة في الضفة والقطاع ليتبنى هو هذا الموقف ويسوقه على الملأ، لا سيما وأن هذا 'الوكيل' ليس في أحسن حالاته الوطنية، ولا مؤهلاً أكثر من الحركة الوطنية في الداخل لمثل هذا الدور، فهذه الحركة لا ينقصها التجربة ولا التاريخ النضالي المشرف، فقد قدمت الشهداء والأسرى وراكمت التجربة والنضال الجماهيري الذي يؤهلها، على الأقل، أن لا تعتذر من أحد أو تتلعثم حين تطالبه بأن يترك لها ساحتها لتصيغها كما تراه جماهيريًا مناسبًا، أو أن تطالب بحقها في الحضور الوطني والتأثير بما يتناسب ومكانتها وتجربتها النضالية.