تجمع شعوب المنطقة على أن الثورة المصرية المجيدة التي جاءت بعد الثورة التونسية وأطاحت بنظام الاستبداد والفساد والحصار والجدار الفولاذي بمؤسساته ورجال أعماله وإعلامه قد رفعت رأس الأمة، وأعادت إلى مصر دورها الوطني الريادي الذي بدأ يتهاوى تدريجيا مع زيارة السادات للقدس عام 1977 وإلقاء خطابه في الكنيست، والتوقيع على اتفاقية "كامب ديفيد" في العام التالي.
 
إنها المعاهدة التي أنتجت فيما بعد محورا عربيا رسميا تقوده مصر أكثر ما حرص عليه إرضاء الغرب وتلبية إملاءاته التي ترتكز بالأساس إلى السعي لتحقيق مصلحة إسرائيل وأمنها واستقرارها، حتى وإن كان الثمن على حساب تدمير دول برمتها وتشويه قيم شعوب بأكملها.   
 
لقد وقعت "المعاهدة" حينها برعاية الرئيس الأميريكي جيمي كارتر، الذي أسس بعد انتهاء فترة ولايته عام 1982 مركز كارتر الرئاسي للسلام في ولاية جورجيا الأمريكية، وأصبح فيما بعد مبعوثا، ليس لرباعية أو لثلاثية، وإنما لنشر قيم السلام والمؤاخاة بين الشعوب ومدافعا مثابرا عن مبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
 
أما أبرز نشاطاته في المنطقة العربية على هذا الصعيد فكانت المشاركة في مراقبة عملية الاستفتاء حول انفصال جنوب السودان مؤخرا، وحضور حفل توقيع اتفاقية جنيف (بيلين/ عبد ربه) عام 2003 والمشاركة في وفود مدنية للإشراف على  سير العمليات الانتخابية في عدد من البلدان العربية، بما فيها الأراضي الفلسطينية عام 2006. إضافة إلى ذلك، فقد بادر الرئيس السابق من خلال موقعه اللاحق إلى عقد جلسات مباحثات مع ممثلين عن حركة حماس في دمشق عام 2008 والقاهرة عام 2009، في إطار ما أطلق عليه بوفود "الحكماء"، ولم يكن ملف اختطاف الجندي جلعاد شاليت غائبا عن أجندتها.
 
إذن، ليس مفاجئا أن يبادر الناشط الحقوقي والسياسي الذي نال جائزة نوبل عام 2002 أيضا إلى تهنئة الشعب المصري على جني الثمرة الأولى لثورته بإطاحة النظام الذي تبنى نهجا سياسيا وأيديولوجيا وليد مرحلة تاريخية أفرزتها اتفاقية سلام رعاها الرجل بنفسه، قلبت المنطقة رأسا على عقب وشقت صف الأمة وهدرت كرامتها.
 
من يعي مصر من العرب قبل "كامب ديفيد" أو تعرف عليها ربما من خلال مذياع أحاط به أهل الحارة للاستماع إلى خطابات عبد الناصر ونال (المذياع) من الضربات ما يكفي لتحسين أدائه المتردي، أو من خلال شاشة سوداء وبيضاء اللون أكل الدهر وشباب وصبايا وشيوخ الحي عليها وشربوا، أو دور السينما العربية التي كانت تعج بأفلام إسماعيل ياسين ويوسف وهبه وأمينة رزق، أو من روايات أدبائها ومؤلفيها وأشعار شعرائها، قد يتطلع بشوق ورومانسية إلى العودة بالزمن والتاريخ إلى تلك الفترة.
كما أنه ليس مستغربا أو مفاجئا بالمقابل أن نرى الغرب، من الجهة الأخرى، يرتجف قلقا وذعرا من عودة مصر ما بعد "كامب ديفيد" إلى ما كانت عليه قبل أن يضع أنور السادات يده بيد ميناحيم بيغين برعاية ذراعي كارتر.
 
لقد مضى على توقيع معاهدة "كامب ديفيد" أكثر من ثلاثين عاما، إلا أنها لم تنجح بعد ثلاثة عقود ونيف من إذابة الجليد بين الشعبين أو تطبيع العلاقات بشكل حقيقي بين البلدين، كما يفترض لاتفاقيات السلام الحقيقية أن تفعل. ذلك لا يعني بالضرورة أن الدور الاستراتيجي المستقبلي المتوقع لمصر يكاد يكون محصورا بين سيناريوهين يقعان على طرفي نقيض لكنهما فعليا لا يتناقضان... الأول، متمثل بالإبقاء على "المعاهدة" قائمة، والثاني يقوم على إلغائها، أي إما السلام مع إسرائيل أو الحرب ضدها.
 
ما يبدو راجحا، في المرحلة الحالية على الأقل، هو أن المسار الاستراتيجي المستقبلي لمصر سيدور في فلك يقع بين الافتراضين.
 
والأسباب عديدة دون أن يكون أحدها الإعلان المباشر للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي فوضه الرئيس المخلوع بإدارة شؤون البلد خلال الفترة الانتقالية القادمة عن التزامه بالاتفاقيات الدولية والإقليمية الموقعة مع مصر. نضع ذلك التصريح جانبا.
 
فشرارة الثورة لم تطلقها أحزاب وحركات منظمة ذات برامج سياسية، وإنما شباب محبط، ليس مؤدلجا، طالب بتغييرات بنيوية داخلية جذرية مشروعة تتلخص بتحقيق العدالة الاجتماعية وتكريس مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير والحد من القهر والظلم والفقر والبطالة والفساد والتأسيس لتنمية حقيقية.
 
بالتأكيد، لا تنم تلك المطالب عن افتقار الشباب للوعي السياسي بأهمية دور مصر الخارجي أو عن عدم إلمام بتاريخ مصر أو عن إغفال لمكانتها العروبية والاعتزاز بها.
 
فإدراك الشباب لسوء أوضاعهم الداخلية خير كفيل لإحداث التغيير الاستراتيجي النوعي المطلوب في سياسات أوطانهم الخارجية. إحدى ركائز التأسيس لنظام سياسي سليم يكون فيه الرأي العام موجها أساسيا له في سياساته الداخلية والخارجية هو إصلاح ذات البين.
 
وبعد ثورتي تونس ومصر، فإن محاولات إغفال عمليات الإصلاح الحقيقي الداخلي أو تعليقها لأجل غير مسمى تحت ذرائع ضرورة التركيز على الأولويات الوطنية وعدم منح العدو فرصة الشماتة وتحرير الأراضي العربية المغتصبة "أولا" باتت حججا موضع عدم مصداقية بل ومبعث سخرية الشعوب.
 
إن عملية إصلاح جذرية داخلية، إن تمت كما يراد لها أن تتم، ستقود تلقائيا إلى رسم ملامح السياسة الخارجية الإقليمية والدولية لمصر ما بعد مبارك ونظامه.
المساران متلاحمان ولا يمكن لأحدهما إلا أن يؤثر ويتأثر بالآخر.
 
إن الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل قد أنجزها الشباب بإسقاط رأس النظام منطلقين من صلابة إيمانهم بتحقيق أهداف الثورة واندفاعهم العقلاني نحو تحقيق النجاح وتنظيمهم غير الهرمي الذي تميز بأعلى درجات التنظيم، وعزيمتهم التي أبت أن تقهرها محاولات الترهيب والترغيب المتكررة على مدار أكثر من أسبوعين.
 
إن "استعادة مصر لمكانتها" في السياق التاريخي والسياسي الحالي، أي في ظل الإبقاء على "كامب ديفيد" قائمة من جهة، واستثمار إنجازات الثورة، من الجهة الأخرى، يستدعي استحضار جملة المواقف السياسية الخطيرة التي اتخذها النظام المخلوع "إراديا" لتتماهى إلى أبعد الحدود مع تحقيق المصالح الأمريكية والأوروبية والإسرائيلية في المنطقة، بعيدا عن أي اعتبار للمصالح القومية العربية وصون كرامة الأمة واحترام إرادة الشعب المصري ورأيه العام.
 
فلا ننسى موقف النظام المصري من الحرب الإسرائيلية على غزة، وفيما بعد الحصار والتضييق على أهلها وبناء الجدار الفولاذي، والموقف من الانقسام الفلسطيني وملف المصالحة، واستقبال مسؤولين إسرائيليين ارتكبوا أبشع الجرائم الإنسانية بحق الفلسطينيين في أوقات لا تأخذ بعين الاعتبار حساسية الظرف ومعاناة الفلسطينيين.
 
لم يقم النظام، حتى من باب أضعف الإيمان، بأي دور دبلوماسي دولي مقاوم لسياسات إسرائيل وانتهاكاتها وجرائمها في المنطقة، وإنما انتهج مسارا أيديولوجيا مبنيا على سمع وطاعة وإرضاء كل من يحمي إسرائيل.
 
تبقى الرؤية الإستراتيجية إزاء القضية الفلسطينية التي ستظل قضية العرب الأولى، مهما دار الزمان والتاريخ، من المحددات الرئيسية لملامح مصر القادمة وسياستها الخارجية، وذلك بالتأكيد لن ولا يتوجب أن يكون على حساب السير قدما بعملية الإصلاح الداخلي التي يطالب بها الشباب، قادة الثورة.
 
لا يمكن اختزال التكهنات حول دور مصر الإستراتيجي في المرحلة القادمة بتوجهات السلطة المنتخبة مستقبلا إزاء "كامب ديفيد"، رغم الانعكاسات الخطيرة لتلك المعاهدة على الحالة العربية. لنترك الأمريكيين والأوروبيين والإسرائيليين ينخرطون بتحليل مصيرها على غرار انشغالهم الدائم بكيفية صون، لا بل "صيانة"، "عملية" السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
 
فلم تكن تلك المعاهدة يوما قريبة من نبض الشارع المصري أو نبض الأمة بأكملها. إنها غير قائمة على أرض واقع الشعوب أصلا، وبالتالي فإن أي نقاش استراتيجي مستقبلي مفترض حول الإبقاء على "كامب ديفيد" سارية المفعول أو شطبها استراتيجيا لا يمت لواقع الأمة الواقعي بصلة. فهي بالنسبة لشعوب المنطقة منتهية الصلاحية منذ تاريخ إنتاجها.
 
الحديث يدور، في المرحلة الحالية على الأقل، حول خطورة النهج الأيديولوجي للنظام السابق وسلسلة طويلة من المواقف السياسية المتخاذلة التي اتخذها من يمثله بمحض إرادته إزاء قضايا مصيرية في المنطقة مست بمكانة الأمة وكرامتها وأضعفتها.