حول النفي والخوف؛ فكرتان على ضوء الاحتجاج الإسرائيلي../ مجد كيّال
لقد طُرحت مواقف عديدة فيما يتعلق بالاحتجاجات الاجتماعية-الاقتصادية في إسرائيل يناقش معظمها مضمون هذا الاحتجاج، أي ما فيه من شعارات ومطالب وجهات مشاركة، وتُظهر آراء كثيرة تناقُض هذه المطالب وهذا الاحتجاج مع نضالنا كأبناء الشعب الفلسطيني من خلال مضمون الاحتجاج، شعاراته والمشاركين فيه.
قبل أن أبدي وجهة نظر مختلفة لا بد من طرح تنويهين لا يمكن للموقف أن يكتمل دون توضيحهما.
الأمر الأوّل: إن الحديث عن علاقة التناقض أو التماثل بين طرفين "نحن" و"هم" لا يُقصد فيه تقسيما عرقيّا، بمعنى أننا لا نتحدث عن "نحن العرب" و"احتجاج اليهود"، إنما تقسيم يعتمد على الموقف النضالي من قضية استعمار فلسطين. المقصود بـ"نحن" هو أصحاب الموقف المناهض لاستعمار فلسطين، والرافض لتجزئة القضية الفلسطينية، الذي يرى بالدولة الإسرائيلية- كدولة يهودية- كيانًا عنصريًا قائمًا على نفي المجموعة القومية العربية. أما الطرف الآخر فهو الطرف الذي يرى نفسه جزءًا من "الشعب الإسرائيلي" بما تحمله إسرائيل من مفهوم الدولة اليهودية، ويمكنه أن يرى نفسه كجزء من الوحدات الاجتماعية الإسرائيلية، أي أنه جزء من المجتمع الإسرائيلي. وحده هذا التقسيم هو القادر على احتواء (نظريًا) التناقض والمساحة الرمادية الناتجة عن واقع المواطنة، لأنه تقسيم يعتمد على الأبعاد الإنسانية (سأوفّر، حذرًا، استخدام ادعاء "الأخلاقية".) في بلورة الموقف السياسي. يأتي هذا التقسيم لأننا بحاجة إلى دائرتين مغلقتين تشكلان أساسًا متينًا نبني عليه فهمنا للتجاذب والتنافر اللذين تفرضهما الواقعية والعمليّة السياسية.
الأمر الثاني: يميّز الفيلسوف الألماني عمانويل كانط بين "الجُمل التحليلية" و"الجمل المركبة"، حيث يعتبر الجملة التحليلية جملة لا يتعدى فيها الخبر ما يتضمنه المبتدأ، ولهذا فإن العلاقة بينهما إما أن تكون صحيحة بالمطلق، وإما أن تكون خاطئة بالمطلق وبالأحرى: إما أن يكون التماثل تامًا، وإما أن يكون التناقض تامًا. فالجملة التحليلية التي تضم خبرًا ينقض مبتدأه ستكون بالضرورة خاطئة، ولا يمكنها أن تكون صحيحة إلا في حال دخول عامل الفرق الزمني الذي سيحوّل الجملة إلى "جملة مركبة" حيث يوسّع خبرها ويضيف على مبتدئه. وتمييز الجملتين، إضافةً إلى عامل الزمن، سيكون شأنًا مركزيًا في فهم وجهة النظر.
من غير الممكن، برأيي، تركيب ادعاء يحتوي الفهم الشامل للطرفين في الوقت ذاته وينجح باتخاذ موقف سليم من مشاركتنا في الاحتجاج. سؤال اتخاذ الموقف لا يأتي من وضع الحالتين بالمقابل، وضع الذاتين بالمقابل ومحاولة الربط أو نقد الربط بينهما. كل جزء من المعادلة "نحن" و"هم" هو جزء يمكن بحثه وادعاء ما يُنسب إليه من مواقف، كل جزء يُمكن أن يطرح بالنسبة إليه ادعاء مركّب، كل جزء منهم يمكن أن يوضع في جملةٍ مركبة؛ يمكنني أن أُحلل حال الاحتجاج الإسرائيلي، وعلى خلفية التحليل أقدّم استنتاجات سياسية معيّنة، ولكن هل يمكن أن أقدم استنتاجات متعلقة بطبيعة نضالنا "نحن" من منطلق تحليل الجزء الآخر-"هُم"؟
الإجابة- لا. العلاقة بين "نحن" و"هم" كعلاقة تحليلية هي علاقة نفي، تناقض تام بين أسس وجود الكيانين. وإمكانية ربطهما في سياق توافقي هي عملية تحويل الادعاء لادعاء مركّب، يقضي بالضرورة دخول عامل الزمن، وعامل الزمن في هذا السياق السياسي يعني سقوط الحقّ بالتقادم.
قد نختلف في بلورة الشكل والموقف المتعلقين في أحد الأطراف، لكن حتى هذا الاختلاف على المضمون والأشكال والتصرفات يصبح مستحيلًا في حال نفي وجود الطرف في إطار الجملة التحليلية المعطاة. لأن الوجود- بالضرورة، أيها الأصدقاء- يسبق بلورة الماهيّة.
النقاش حول "المشاركة أو عدم المشاركة في الاحتجاجات الإسرائيلية" يعني النقاش حول "المشاركة أو عدم المشاركة في نشاط الآخر- مشاركتهم." أي أن النقاش متعلق بنضالنا "نحن"، بنشاطنا نحن وهل يمكن أن يكون جزءًا من نشاط الآخر. من غير الممكن برأيي أن نجد الإجابة على هذا السؤال من خلال بحث الآخر والسؤال عنه، أي من خلال نقاش مطالب الاحتجاج وشعاراته وغيرها. لا يمكن أن نطرح ادعاءات متعلقة بنضالنا من خلال بحث نشاط الآخر. فالآخر يتصرف بشكلٍ طبيعي، يخطط ويتخذ مواقف متعلقة بنشاطه من خلال رؤيته لنفسه ونقده لنفسه وتحليله لنفسه كذات قائمة. ما سقط به من يشارك في الاحتجاج، وسها عنه بعض الأخوة والأصدقاء الذين كتبوا ضد المشاركة بالاحتجاج هو بلورة موقفنا النضالي من منطلق طبيعة التحرّك الإسرائيلي؛ "أن نكون أو لا نكون هناك؟" لكننا في كلتا الحالتين ندرس كياننا دراسة مشروطة بطبيعة الكيان النافي له.
ولئلا يُساء الظن، يجب التوضيح، أني لا ألغي ضرورة أن نتخذ الاحتجاجات الإسرائيلية فرصة لطرح الأسئلة النضالية. إلا أني أود أن ألفت النظر إلى الفرق الشاسع بين نقاش نضالنا على ضوء الاحتجاجات الإسرائيلية، وبين نقاش نضالنا من خلال الاحتجاجات الإسرائيلية ونسبةً لها.
تكمن المشكلة في أن الصراع بين النقيضين "نحن" و"هم" صراع لأجل النفي. نحن نريد أن ننفي الفكرة الصهيونية، وهم يريدون أن ينفوا الوجود العربي الفلسطيني (فكرةً ومادّة) وهذا الاحتجاج هو احتجاج "لكي تصبح إسرائيل مكانًا أفضل"، لأجل "تحسين سياسات الدولة" و"تحسين إدارة الدولة."
الآن، أنا أوافق من يقول أنّ علينا أن نعيش، أوافق أن لدينا قضايا حياتية، اجتماعية واقتصادية، طبعًا. أوافق أن حل هذه القضايا يجب أن يتوازى بل ويسبق بخطوة العمل السياسي "الكبير"، ولكني أرفض صناعة الوهم رفضًا مطلقًا؛ أن نرى بسياسات الدولة وسبل إدارة الدولة سببًا لأزمتنا الاقتصادية والاجتماعية هذه كذبة، هذا وهم. مشكلتنا ليست سياسات الحكومات، بل وجود الدولة أساسًا. سبب أزمتنا هو ليس سياسات إسرائيل، سبب أزمتنا هو وجود إسرائيل كدولة عنصرية للشعب اليهودي وككيان استعماري في بيئتنا الطبيعية. يجب ألا نُغفل من تحليلنا هذه الحقيقة الصارخة: أزمتنا هي شرط من شروط تكوّن الدولة. لم يكن ممكنًا لإسرائيل أن تتكون كدولة ذات أغلبية يهودية وطابع صهيوني دون أن تدخلنا (وبشكلٍ مدروس) إلى ما نحن فيه من أزمات.
الآن سأقف عند أمرين غاية في الفكاهة وقمة في الساتيرا، الأوّل هو أننا تركنا كل القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تمر بها إسرائيل، واستيقظنا عند أزمة السكن. يعني، أزمة السكن هي أكثر أزمة متعلقة بنفينا كفلسطينيين، وأكثر أزمة متعلقة بالتمييز القومي ضدنا لأنها مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بمصادرة الأرض، وتهويد الجليل والنقب، وتدمير القرى المهجرة التي نزح سكانها إلى "أحياء لجوء" في مدن وقرى أخرى وغيرها وغيرها... اللعنة، ألم تجدوا قضية أقل تناقضًا؟ صفعتمونا بقضية المسكن بضربة واحدة؟ ألم يكن من الأسهل مثلًا أن تمهدوا لنا بقضية إضراب الأطباء مثلًا؟
الأمر الثاني المضحك هو أن أكثر فئة تغضب وتزمجر وتخاف وتضيء ألف ضوء أحمر عندما يتحدث أي شخص عن "نفي وجود الدولة الصهيونية" هي ذاتها الفئة التي تؤمن بضرورة نفي كل الدول! إن الحزب الشيوعي في بلدنا هو أكثر الأحزاب غرابة في العالم.
لا بد من أن نناضل لأجل قضايانا الحياتية، لأجل المسكن ولأجل التعليم ولأجل الصحة. لكن النضال الذي نريده هو نضال في فضاء وطني يصبح فيه هذا النضال اليومي هو ما يعيد إنتاج الوجود والحق بالوجود لنا كمجموعة وقطب في صراع النفي. تحدثت عن أن النضال اليومي في فضاء إسرائيلي يعتبر نفيًا لا يمكن احتماله للذات، ولكن في الوقت ذاته لا بد من الإشارة إلى أن الفضاء النضالي ضد إسرائيل يصبح فضاءً صحراويًا ميتًا إن لم يتفاعل مع المطلب اليومي للناس.
*
في سياق آخر وزاوية أخرى للرؤية يدور الحديث عن احتجاجات أزمة السكن من خلال الثورات العربية. وبالرغم من استهجان قراءة هذه الاحتجاجات بسياق ثوري عربي، إلا أنه لا يمكن أن نتجاهل العلاقة السرابيّة بين الثورة العربية والاحتجاجات الاسرائيلية التي يخلقها التزامن والتشابه بالأسلوب، وبالتالي، يجب نقد مشاركتنا "نحن" في هذه الاحتجاجات نقدًا في سياق الثورات العربية.
الحد الأقصى من الصدق هو الشرط الأوّل لكل ثورة شعبية واحتجاج شعبي. صدق أمام الذات أولًا. إن الثورة هي الحد الأقصى من تطهير الذات، حيث أنها الاستعداد للتضحية بالنفس لأجل ما تقول، لذا فلا حاجة لتزييف ما تقول. لا يمكنك أن تثور في حين تمارس صنفًا من أصناف خداع الذات وإيهام النفس. لا تستطيع أن تثور وأنت تخدع نفسك بأنّ "الكف لا يلاطم المخرز" ولا بأنّ "لو شلنا الريّس حييجي اللي أسوأ منه" ولا بأنّ "الواحد لازم يشوف مصلحته بالأوّل". هذا النوع من خداع النفس إنما هو ناتج حتمي من الخوف وأدلجةً له.
الثورة الشعبية تأتي لتكسر حاجز الخوف، وتكسر معه كل الأوهام الأخرى التي نبنيها لأنفسنا. وفي الاحتجاج الشعبي- بالضرورة- شيء من الثورة الشعبية. وهنالك إجماع على أن الثورة التونسية والثورة المصرية كسرتا حواجز الخوف عند الناس، هذا ما نقصده عندما نتحدث عن "دروس الثورة"، وإلى هذا نشير عندما نتحدث عن أن "العالم كلّه خرج، ماذا عنّا؟"
الآن نسأل: هل يعبّر انخراطنا في الاحتجاج الشعبي الإسرائيلي عن دروس الثورة هذه، كما يحاول البعض تسويقها؟ يقول الأمين العام السابق للحزب الشيوعي عصام مخول: "أعتقد أن ما جرى في ميدان التحرير موجود في أذهان كل من يوجد هنا اليوم". هل يمكن لنا "نحن" أن نشارك في الاحتجاجات الإسرائيلية وأن نشعر بنفسية ميدان التحرير في الوقت ذاته؟
السؤال استنكاريّ، لا يمكننا أن نكون صادقين في المشاركة في هذا الاحتجاج، لأننا لا نملك أي رابطٍ عاطفي مع عقيدة الاحتجاج هذه، والأهداف "السامية" التي تختبئ وراء المطالب المباشرة. لكن ما نفعله هو أننا نستمر في خداع الذات دون هوادة، والمشاركة في الاحتجاج هو جزء من خداع الذات، وهو ليس جزءًا من دروس الثورة بل سأقول إنه النقيض التام لدروس الثورة: إنه تكريس خداع النفس الناتج عن الخوف. هل كسرنا "نحن" حاجز الخوف في مواجهة النظام العنصري في إسرائيل؟ أبدًا؛ نحن لا نزال نخشى النزول إلى التظاهر دون تصريح من الشرطة، نحن لا زلنا نرتعش كلما استدعينا للتحقيق. نحن لم نكسر شيئًا من حاجز الخوف، بل نخدع نفسنا بالمشاركة بهزليات مسرحية تجعلنا جزءًا من تشويه سياق الثورة العربية.
درس الثورة العربية أن نهجر الانهزامية الداعية لـ"ترك القضايا السياسية الكبرى."
درس الثورة العربية هو النضال لأجل القضايا اليومية من منطلق وعينا لذاتنا ككيان حي ونابض لا يقبل النفي من قبل أي آخر، فنضع القضايا الحياتية، الاجتماعية والاقتصادية على رأس الحراك الثوري الوطني المناهض للمصالح الاستعمارية الكبرى.