تتيح الصراعات المنفجرة أمامنا من حين لآخر الوقوف مباشرة مع وجهات النظرالمختلفة لفهمها وتفسيرها. الايدولوجيا بالعموم ليست أكثر من أداة لفهم الواقع وتفسيره واتخاذ المواقف من هذا الواقع.
 
الخيام التي نصبت في جادة روتشليد في تل أبيب، مؤخرا، بما يخص أزمة السكن وقضايا أخرى ذات طابع اجتماعي، أتاحت لنا الإطلالة على بعض التفسيرات التي تتيحها هذه الإيديولوجيات.
 
لا خلاف تاريخيا أن المؤسسة الإسرائيلية نجحت نجاحا باهرا في خلق إيديولوجيا فوق "التاريخ" وخارج السياق الإنساني، ونجحت نجاحا باهرا في تعميم إيديولوجيا خاصة لليهود، وباليهود، منحت لهم رؤية وتفسيرات خاصة لموقعهم ومكانتهم وعمقت في سياق ذلك مفهوم شعب الله المختار، هذا السياق الذي دمج بين مفهوم ثيولوجي ديني على أساس إيديولوجي قومي، من خلال الدمج المثير بين الدين كايدولوجيا وضعت اليهود خارج السياق البشري، الذين لا تنطبق عليهم قوانين البشر العادية، وبين الصهيونية كفكرة أرضية حققت ذاتها في سياق "وعد الهي" على الأرض.
 
يمكن الادعاء مثلا أن "البرجوازية اليهودية" نجحت في تضليل "البروليتاريا اليهودية"، باتجاه معركة قومية حتى تضمن سيطرتها وهيمنتها، هكذا بالمناسبة يمكن اختصار كل إشكال الصراع منذ النكبة وما قبلها. تحالف البرجوازية وأصحاب المصالح والأغنياء ورأس المال مقابل العمال والطبقات المسحوقة، وبينها تضيع الفوارق القومية، الصراع الاجتماعي، والصراع الطبقي هو الاساس، فيما تعيش باقي الصراعات على الهامش، يتم استغلالها، وتغليبها بهدف التضليل وإزاحة الأنظار عن الصراع الحقيقي، الصراع الطبقي.
 
الذين تبنوا هذا التفسير لما يحصل في تل ابيب يعيشون في ماض سحيق للغاية، تفسير كلاسيكي لحقيقة الصراعات الدائرة في المجتمعات الإنسانية، الصراعات القومية والثقافية والاثنية وحتى تلك ذات الطابع الديني، الصراعات الحضارية برمتها، كلها تصبح هامشية للغاية لصالح الصراع المركزي، الا وهو الصراع الطبقي. في زمن لم يعد حتى الماركسيون يقبلون بمثل هذا التفسير للصراعات الدائرة داخل المجتمعات وبينها، هناك من يصمم على تفسير هذا الصراع في نطاق المربع القديم، هناك للأسف من حاول أن يفسر حركة الاحتجاج في تل أبيب على هذا المنوال، بهدف خلق حالة من التماهي بين تل أبيب والعراقيب، لأنه لم يكن أي طريقة لإقناع العرب بضرورة الانضمام لخيام روتشليد إلا بتحييد الصراعات الأخرى لصالح الصراع الطبقي، الصراع مع رأس المال، ومع 18 عائلة تحكم إسرائيل، العولمة والخصخصة كلها في سلة مثيرة واحدة، تخلطها سوية فلا تجد أي فرق بين الضحايا.
 
ليس مثلنا ضحايا لسياسة السوق والخصخصة ورأس المال والعولمة برمتها، لكننا بالأساس ضحايا حالة سياسية، وفي ذلك نحن نختلف جوهريا عن سكان خيام الطبقة الوسطى في تل أبيب، وحتى عن ضحايا أحياء الفقر على أطراف مدن المركز، كفارشاليم وجاسي كوهين في حولون وحي هتكفا والكطمونيم في القدس وحي "د" في بئر السبع، هؤلاء بالمناسبة هم ضحايا الطبقة الوسطى التي تتظاهر في تل أبيب، هؤلاء يصممون على تأكيد الفوارق بينهم وبين سكان خيام روطشيلد، فلماذا هناك من يطالبنا بشطبها؟
 
ربيع "تل الربيع"هو خريفنا
 
على الرغم من كل ما قيل ويقال حول إدراج مطالب للعرب ضمن المطالب العامة المقدمة للحكومة من قبل المحتجين، وقد يكون ذلك ولا بأس بذلك أيضا، لكن لا تكمن هنا المشكلة. المشكلة والخلاف يكمنان في الجوهر، جوهر المطالب، الصوت المنطلق من تل أبيب من خيام جادة روطشيلد هو صوت آخر، لا يمكن أن يكون نفس الصوت المنطلق من العراقيب، وحين نقول ذلك فليس في ذلك أي "تقوقع قومي"، وليس في هذا أية شوفينية، هذه حقيقة موضوعية، ولا يمكن شطب الفوارق بين الصوتين لمجرد الادعاء أن من شان ذلك "عزل العرب" ودفعهم إلى التقوقع.
 
صوت تل أبيب ليس موجها إلى دائرة الأراضي، ولا إلى دوريات الهدم، ولا ضد المصادرة وضبط مناطق النفوذ، ولا ضد التهويد، وهذا هو بالضبط صوت العراقيب، وإذا رغبنا أن لا نذهب بعيدا عن جادة روطشيلد، فليس بعيدا من هناك، تقريبا في آخر الشارع من الناحية الجنوبية، مشيا على الأقدام يمكن لكل واحد أن يشاهد بأم عينه، على أرض الواقع، وقائع أخرى في مدينة اسمها يافا، في حي اسمه العجمي، البيوت التي تقام على أرض الحي بعد أن هدم حي بأكمله، سكان الخيام يطالبون بخفض أسعار البيوت المقامة على أرض العجمي، بدل البيوت العربية التي مسحت من الوجود، فكيف من الممكن أن يكون الصوت واحدا؟
 
بخلاف ما يطالب البعض في "اقتناص الفرصة"، فان هذه اللحظة مهمة لتأكيد الفرق، لا يمكن خلق تماه بين صوت تل أبيب وصوت العراقيب، إلا على حساب "صوت العراقيب". وحقيقة أن المحتجين "وافقوا" على إدراج مطالب مثل الاعتراف بالقرى غير المعترف بها في الوثيقة المقدمة للحكومة الإسرائيلية لا يمكن أن تكون بديلا عن النضال الشعبي، ولا يمكن أن تشطب الحدود والفواصل.
 
السؤال المهم في سياق محاولة التقريب والاقتراب بين تل ابيب والعراقيب، ليس لمصلحة من "التقوقع"، بل لمصلحة من تشطب الفوارق؟ التأكيد على الفوارق بين تل أبيب والعراقيب لا يجعل من العرب شوفينيين" ولا "قومجيين"، بل يجعل الأمورأكثر وضوحا.
 
عندما نطالب بالتأكيد على الفوارق، التي يرى البعض أن مجرد التأكيد عليها هو "تنفير" و"تقوقع"، فإننا نقصد التأكيد على مساحة اللقاء والابتعاد بين الطرفين، أي المشترك والمختلف بين العراقيب وتل أبيب.
 
الآن وفي هذه الأحداث بالذات هناك ضرورة لتبيان الحدود والفوارق والمشترك، لأن المشكلة لا تكمن في المشترك فقط، بل في المنطلقات. الفرق في المنطلقات بين تل أبيب والعراقيب ليس شاسعا فقط بل هو جوهري كذلك، وهو الفرق الذي يحاول البعض شطبه أو عدم اعتباره من خلال إجراء تقسيم "طبقي"، الأغنياء مقابل الفقراء، ورأس المال مقابل البروليتاريا.
 
 ولكن لماذا نحن المطالبون دائما بالاقتراب من الآخر؟ ولماذا نحن فقط الذين نتهم بالتقوقع في حالة لم نذهب إلى تل أبيب، ولم نرفع صوتنا في حيفا؟ لماذا هذا الشعور الذي يصمم البعض على اعتباره "عقدة" نحن مطالبون بفكها، وبإثبات حسن النوايا؟ لماذا لم نجد على امتداد 63 عاما صوتا من تل أبيب يوجه لنفسه هذه التهمة؟
 
التأكيد على الفرق بين تل لبيب والعراقيب هو مهم للغاية، ولا يمكن شطبه بخطاب يصل إلى حد المساواة بين المجرم والضحية، أي أننا كلنا ضحايا نفس السياسة وذات السياسة، رأس المال واليمين المتطرف، لماذا يصمم البعض حصرنا في هذه الزاوية حتى يصبح للنضال معنى؟
 
نحن بكل أسف، لسنا ضحايا لذات السياسة، رأس المال وحكومة اليمين المتطرف، نحن أيضا ضحايا الطبقة الوسطى والطبقة العاملة في الناحية الإسرائيلية، ولا يهم إن كانوا هؤلاء ضحايا التضليل الرأسمالي. نحن أيضا ضحايا الطبقات الوسطى التي تصوت لليسار الإسرائيلي ولليمين الإسرائيلي وللمركز. ونحن أيضا ضحايا لميرتس قبل أن نكون ضحايا لليمين، أتدرون لماذا، لأن صوت اليمين واضح للغاية ضدنا، أما صوت ميرتس و"اليسار" والطبقات الوسطى في تل أبيب فهو صوت "متعال"، لا يحبذ أن نكون إلى جانبه، بالضبط مثل صوت حركة السلام الآن، التي لم تقبل حتى الآن عربيا واحدا في صفوفها.
 
كل هذا بالمناسبة لا يمنع من العمل بشكل عيني مع أطراف بشرط واحد أن تكون هذه غير صهيوينة.
 
من المهم للغاية أن نفهم الصوت المنطلق من تل أبيب، أن نفهم مقصده ومحدوديته، فالمسألة بالنسبة لنا ليس "عنزة ولو طارت"، هذا صوت واضح المعالم والمطالب، وهو يطالب بتحسين مستوى الحياة، ونحن نطالب بالحياة. قد لا يعقل أن يكون هناك أناس في هذا القرن يطالبون بالحق في بناء بيت على أرضهم! مثل هذا الأمر أضحك الكثير من الأوروبيين الذين زاروا القرى غير المعترف بها.
 
العراقيب تهدم على مرمى حجر من بيوت مدينة بئر السبع الفارغة، على أطرافها الشمالية. في العراقيب يمنع السكان من بناء بيوتهم، وتهدم خيامهم المرة تلو الأخرى، وفي بئر السبع يترك السكان بلدتهم باتجاه تل أبيب بعد أن تعثرت حياتهم هناك في بئر السبع. بيوت تفرغ وهي بشروط مغرية للغاية من جهة قروض الإسكان والضرائب.
 
ومثلها البيوت في الجليل، ففي السنوات الأخيرة كان مشروع تهويد النقب والجليل على قدم وساق. وفي المستوطنات أيضا كانت هناك شروط مغرية للغاية، هناك المئات بل الآلاف من العائلات التي انتقلت للسكن في المستوطنات في السنوات العشر الأخيرة. وهذه أيضا رأت من المناسب العودة إلى المركز بعد أن تعثرت حياتها هناك. آلاف العائلات التي عادت من النقب والجليل والمستوطنات هي التي دفعت باتجاه تفاقم أزمة السكن في تل أبيب والمركز، هذا جزء من تفسير الأزمة، صوت هؤلاء لا يمكن أن يكون صوت أهل العراقيب.