عودة بشارات، المثقف والقيادي في الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، ردد في كتاباته الأخيرة على صفحات جريدتي "الاتحاد" و"هآرتس"، مرويات عن دور الخطاب العربي الرسمي، وخطاب الحاج أمين الحسيني بالذات، في تحقيق استراتيجية بن غوريون لطرد الفلسطينيين من وطنهم؛ ومثل هذا الخطاب الذي يدعي التاريخية والعلمية، لا يصمد أمام التحليل العلمي للعمليات الاجتماعية، ولا أمام النظريات التاريخية التي تفرق أول ما تفرق بين ما هو هامشي، وما هو رئيسي ومركزي وبنيوي في العملية الاجتماعية أو التاريخية، وتحتم على الباحث التحقق من كل المرويات قبل ترديدها وبثها باعتبارها حقيقة يقوم عليها بنيان من الاستنتاجات. 

فترديد عودة بشارات وتأكيده: "اعتمد بن غوريون فيما اعتمد عليه، في مخططاته لإفراغ البلاد من العرب، بأن العرب أنفسهم لن يقبلوا بالعيش تحت حكم اليهود"، وهو ترديد ادعاء كاذب من حزمة ادعاءات ملفقة تقدمها الصهيونية ودولة إسرائيل لتبرير عمليات طرد وتهجير الفلسطينيين التي نفذتها القوات العسكرية الصهيونية في سنوات 1947، و1948، و1949، وبعد ذلك أيضا.

ومرويات عودة بشارات تتناقض مع آخر استنتاجات البحث العلمي التي قدمها د. نور مصالحة في رصده لبرامج الاقتلاع الصهيونية، ومع أعمال إيلان بابي التي تؤكد، مثل دراسات كثيرة قبلها، على عمليات الطرد المنظم، وتتفرد بإصرارها العلمي بأن عمليات الطرد تمت تطبيقا لخطة عسكرية مركزية، محورها الحصار والقتل والطرد، وهي بالتحديد خطة من وضع بن غوريون وبطانته. 

إضافة لذلك، فإن ما يرويه عوده بشارات بثقة تامة عن بن غوريون يشكل، عن وعي أو دون وعي، تقبلا واستبطانا لمقولات صهيونية أساسية تدعي أن صراعها وتناقضها وحربها كانت بالأساس مع التطرف العربي، ومع "الرجعية العربية المتطرفة والاقطاعية"، وليس مع أصحاب الحق من المظلومين الفقراء، فالصهيونية تزعم كذبا وزورا أنها جاءت أيضا لإنقاذ فقراء فلسطين ومظلومي الشرق من "جور الرجعيين العرب الغوغائيين الطماعين، الذين يخافون الاشعاعات التقدمية الصهيونية".

ترافقت أقوال عودة بشارات المذكورة مع تصريحات هامة قدمها كذلك بالعبرية على صفحات "هآرتس"، وفي تلك الأقوال زاد بشارات على مروياته عن بن غوريون بمأثورات من جراب الكاتب والقائد السياسي المرحوم إميل حبيبي، وكذلك بإبداعات من عنده، ولن نتطرق لها جميعا في هذا المقال.

تحدث بشارات في تنظيراته عن تطوير مقولة إميل حبيبي المسماة "الفرج العربي"، وهي جملة فلكلورية ابتدعها إميل حبيبى ثم استلطفها، فحولها لاحقا إلى نظرية للنقد التاريخي والتحليل السياسي، وقد تكرست هذه الجملة الصحفية، ومثلها جمل أخرى، باعتبارها نظريات حزبية شيوعية ثورية تتوارثها الأجيال. 

وجملة "الفرج العربي" التي أصبحت نظرية، تحول الصراع الفلسطيني مع إسرائيل والصراعات العربية معها إلى ساحات سباق إعلامية.. وبما أن الصراع هو سباق اعلامي، فإن قمة النجاح فيه تتلخص بجملة أخرى صارت نظرية ثانية، هي جملة ونظرية "فضح حكام إسرائيل"، والحاجة العملية لمثل هذه النظرية واضحة كالشمس: فإن إميل حبيبي قائد سياسي وصحفي يعمل في منظومة علنية شرعية تحت دولة إسرائيل، واستراتيجيته لتغيير الحكم تقوم على التشهير بالحكومة الاسرائيلية وممارساتها القمعية؛ ولن ندخل هنا في مناقشة صحة الاستراتيجية أو خطئها، ونكتفي بالإشارة إلى أن هذه الاستراتيجية مؤسسة بدورها على مفهوم إميل حبيبي والحزب الشيوعي الاسرائيلي لدولة إسرائيل، وللمواطنة الفلسطينة تحت حكمها.

جملة "الفرج العربي" هي إذا أداة اعلامية لخدمة حزب صغير، رغم أهميته، وضمن واقع محدود، والمهم هنا أن ننتبه إلى أن مثل هذه الأداة الصحفية لا تصلح لتحليل الواقع الفلسطيني، ولا لتحليل الواقع العربي المتنوع، ولا لتحليل النضال التحرري الفلسطيني، ولا الصراع العربي ضد الهيمنة الاسرائيلية وضد الاحتلال الاسرائيلي.

وما فعله عودة بشارات هو فرض جملته الحزبية الاعلامية على الواقع العربي والفلسطيني كله، وجعل التاريخ والفعاليات العربية والفلسطينية رهينة عند حاجاته الاعلامية والسياسية، لذلك كله، وبمناسبة خطابه للرأي العام الاسرائيلي، يجتهد عودة في التركيز على مرويات بن غوريون التي تنسب للحاج أمين أقوالا متطرفة، مثل إلقاء اليهود في البحر، وأن هذه الأقوال أسهمت في طرد العرب؛ وبدل التنديد بإجرامية بن غوريون، أو الاكتفاء بترديد القول المأثور بأن إسرائيل ألقت بالفلسطينيين في الصحراء والعراء، يقف عودة ليقول للجمهور الاسرائيلي ما لم يسبقه إليه عاقل.

يقول عودة متسلحا بنظرية "الفرج العربي" وبالعبرية الفصحى:  "ما يجري بالفعل، هو أن الفلسطينيين ملقى بهم تحت رحمة اثنتين وعشرين دولة عربية شقيقة."

هذه الصياغات اللغوية يطرب لها الجمهور الاسرائيلي المتشبع بالدعاية الرسمية، فهي ترمي الحاج أمين والقيادات العربية بالحجارة ليتشفى الجمهور الاسرائيلي المتربي على كراهيتهم وكراهية العرب، ومن ثم فهي صياغات تخفي اسم وصفة الفاعل الذي ألقى بالفلسطينيين خارجا، وتخفي أيضا اسم وصفة المكان الذي اقتلع منه الفلسطينيين، وبالمقابل فإن المعلوم بالاسم والصفة، والمرتبط بجريمة اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم، هو الفضاء الواسع المحيط بأرض الفلسطينيين "رحمة اثنتين وعشرين دولة عربية شقيقة."

فهل فات الكاتب أن الدول العربية الشقيقة كانت ستًّا أو سبعًا حين قام الفاعل المخفي، أي الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل، باقتلاع الفلسطينيين من المكان المخفي، الذي هو وطنهم، واسمه فلسطين! وماذا عن رحمة أو قلة رحمة الطرف الاسرائيلي، هل تصبح ذمة  دولة إسرائيل صافية بريئة لأنه أصبح للفلسطينيين، بعد النكبة بعقود، اثنان وعشرون شعبا شقيقا يعيشون في دولة مستقلة؟ وهل نسي عودة أن هذه الشعوب والدول ذاتها كانت وما زالت تواجه عدوانية وسيطرة الاستعمار القديم والجديد. 

عودة بشارات زاد في الإبداع فقدم إضافة جديدة أخرى على تنويعات الفرج العربي الحبيبية، وهي إضافة تتعلق بالعلاقات السورية الاسرائيلية، والسورية الامريكية؛ فقد كتب عودة في "هآرتس": "في سوريا فإن الفرج هو التوحش الكاذب ضد إسرائيل والولايات المتحدة."

إذا، حسب عودة بشارات، فإن ادعاءات النظام السوري ضد إسرائيل والولايات المتحدة كاذبة! لاحظوا جيدا أن لديه ليس استعمال النظام لمؤامرات اسرائيل وأمريكا لقمع المواطنين السوريين هو الخطأ، إنما الكذب المتوحش هو ادعاءات النظام السوري ضد إسرائيل والولايات المتحدة.

وهذا قول يخص دولة تحتل أراضي سورية هي إسرائيل، ودولة مكنت إسرائيل من احتلالاتها كلها، هي الولايات المتحدة.. هل علينا أن نضيف للسيد عودة أن هذه الدولة معادية للشيوعية وللتحرر، ولها أسبقيات في التآمر وإسقاط الحكومات والاحتلال في كل أرجاء العالم.

إن هذا التركيز على "غباوة، وتفاهة، بل وخيانة القيادات العربية والفلسطينية" أمام الجمهور الاسرائيلي، هو تملق مكشوف للرأي العام الاسرائيلي المصنوع كولونياليا، وللأفكار المسبقة التي ترسخها الصهيونية ودولة إسرائيل ضد الحكام العرب والقيادات الفلسطينية، بل وضد كل عربي وفلسطيني، فالمزاعم الصهيونية ضد الحكومات والدول العربية وضد مثقفيها وإعلامييها هي ادعاءات  تأتي في سياق استعماري، وتحمل معان مخالفة تماما للنقد الثوري العربي والفلسطيني تجاه الحكام العرب والقيادات الفلسطينية.

ما غرسته الصهيونية ودولة إسرائيل عبر مدارسها ووسائل إعلامها المتنوعة في أذهان الاسرائيليين هو مزدوج، فعلى الصفحة الأولى قاعدة رقم واحد: التخوين.. أي تخوين وتجهيل كل القيادات الفلسطينية والعربية فيما يتعلق بمصالح شعوبها، والزعم بأن هذه القيادات والنخب باعت فلسطين للصهيونية، وهذه القاعدة تمتد فتشمل كل عربي وفلسطيني وليس النخب فقط. وعلى الصفحة المقابلة غرست الصهيونية القاعدة رقم اثنين: العداء العربي الدائم.. وتزعم هذه القاعدة بأن القيادات العربية رجعية بمعنى أنها مسيحية متطرفة، أو اسلامية متطرفة، معادية للتقدم والعلم، ضد اليهود، وضد التفاهم، وضد الديموقراطية، وتشكل خطرا دائما على إسرائيل، وهذه القاعدة تمتد فتشمل كل عربي وفلسطيني، وليس النخب فقط.

وقلما يخلو خطاب اسرائيلي رسمي وأكاديمي وصحفي متعلق بالصراع، من استخدام
إحدى القاعدتين أو كليهما، أو تفرعات عنهما.

هذه الأفكار الصهيونية تغلغلت في أوساط المثقفين وعموم الفلسطينيين والعرب، ولا بد من تعقبها ونقدها لأنها لا تستوي مع النقد الثوري والاصلاحي اليساري أو اليميني للأنظمة والحكام والنخب العربية والفلسطينية؛ إن كلمة رجعية في السياق الاسرائيلي هي مصطلح للتدليل على تقدمية الصهيونية، وليس للتأشير على قصور النخب العربية والفلسطينية عن تحقيق الاستقلال والعدالة لشعوبها، وشتان ما بين قول وقول.

وختاما، أود التأكيد على أن ليس للكاتب أي نية أو قصد سوى نقاش الافكار الواردة في كتابات السيد بشارات وضحدها، بدون المس أو الانتقاص من نضالية عودة بشارات، أو إميل حبيبي، أو الحزب والمؤسسات التي انتموا أو ينتمون إليها، لكن النضالية والإخلاص لا تعني صحة الافكار والنظريات، وبالتأكيد لا تعني صحتها كلها، وبالتالي فإن مناقشة الافكار المطروحة والمعلنة على الجمهور أمر لا بد منه  لكل من يتوخى الحقيقة وقضية التحرر، ومن الأفضل أن يتم صراع الافكار بكامل الصراحة والمبدئية.