نسمات الوحدة والتضامن العربي الرائع التي لفت حرب تشرين 1973، كانت الحاضنة الدافئة التي أنتجت الإنجاز العسكري والسياسي والاقتصادي لمصر وسوريا والعرب كافة، وها هي ذكراها تعود هذه الأيام لتدغدغ مشاعر وأحاسيس العروبي ووجدانه حيثما كان، وخاصة في هذه الأيام التي تعيشها الأمة، أيام التحول والتخوف في آن واختفاء بل وانتفاء وجود حاضنة رسمية كتلك التي عهدناها آنذاك.
 
لقد ذاق العرب حلاوة التضامن ووحدة الموقف في تشرين 1973 في حربهم مع إسرائيل عندما استثمروا قدراتهم العظيمة ومتعددة الجوانب التي جعلتهم رقمًا مهمًا وقوة مؤثرة، إقليميًا ودوليًا، تأخذها المحاور الأساسية في العالم بعين الاعتبار عند صياغة إستراتيجياتها وتكتيكاتها الإقليمية والدولية.
 
كان من المفروض أن تطور الدول العربية هذا الموقف العربي الموحد إلى إستراتيجية دائمة، هدفها حماية الوطن العربي أرضًا وإنسانًا وثروات من أطماع المستعمر الذي غادر المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية وبدايات النصف الثاني من القرن العشرين، حيث تحقق التحرر الوطني.
 
إلا أن القيادات العربية المختلفة لم تفلح ولم تكن جادة في استثمار نتائج الموقف العربي الموحد لصالح المصالح العليا للأمة، وحدة الأرض والثروات وإشاعة ثقافة عروبية ملائمة يتم التصدي من خلالها لأي اعتداء أو محاولة للانتقاص من كرامة الأمة المستعادة في أكتوبر 73، رغم أن الدول العربية شهدت زيادة هائلة في مدخولاتها نتيجة لارتفاع سعر النفط المذهل في تلك الفترة.
 
وبدلاً من تعميق التضامن والتنسيق العربي ووحدة الموقف مستغلة هذا الثراء والإمكانيات لتحقيق استراتيجيتها المفترضة، وقعت هذه الدول فريسة سهلة في شباك السياسة الأمريكية والغربية، مما أعطى هذا الموقف العربي الضعيف الفرصة للولايات المتحدة وحلفائها من تنظيم نفسها وإعادة صياغة استراتيجياتها في المنطقة بما يتلاءم مع مصالحها ومصالح إسرائيل، فأخرجت مصر السادات من العمل العربي المشترك، حيث تم توقيع "اتفاقية السلام" في كامب ديفيد مع إسرائيل وبرعاية أمريكية. ولحق بالقاطرة المصرية م. ت. ف، والأردن وبدأ العرب في الكثير من الأقطار يهرولون نحو إسرائيل، وتبين فيما بعد أن إسرائيل هي التي حصدت نتائج أكتوبر برغم الإنجاز العسكري الذي أنجزه العرب بعد عبورهم قناة السويس. خلافًا لهزيمة حزيران 1967 التي توّجها العرب بإستراتيجية موحّدة في قمة الخرطوم قادت إلى استعادة الكرامة في تشرين 1973.
 
غياب الإستراتيجية الموحّدة للموقف الرسمي العربي، وبغياب الموقف الشعبي الداعم والمقرر ايضًا، تحوّل الوطن العربي بكافة دوله دون استثناء، إلى حقل تجارب لمشاريع الغرب المبنية على دراسات علمية، وإحصائيات ومراقبة لتطور الأحداث والمجتمع، ورصد مستمر لانهيار المنظومة القيمية الاجتماعية، وتفكك الحلقات الأساسية في مجتمعنا وبعد تحول الأنظمة العربية إلى أنظمة مستبدة، ومستأثرة بخيرات البلاد وثرواته، توسعت الفجوة بين السواد الأعظم من الناس والشرائح الضيقة الحاكمة، فزاد الاغتراب في نفسية كل مواطن، وارتفعت البطالة وأصبح رغيف العيش عزيزًا، ناهيك عن منع الناس من ممارسة حقهم الطبيعي في المشاركة في الحكم ومراقبة توزيع الثروة بعدل. وهكذا تركزت الثروة بأيدي القلة، بينما حُرم منها غالبية الأفراد مما زاد نقمتهم على الحكام والأنظمة الذين ينعمون بثروة البلاد بينما هم محرومون منها.
 
إذًا فغياب استراتيجية أمن قومي عربي سياسي واجتماعي واقتصادي أدى إلى انهيارات وتغييرات في المبنى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمجتمع العربي، مما جعل الشرائح المنتفعة والمستفيدة من حالة التفتت والانهيار وعدم الاكتراث تمعن في استسلامها وتقوية علاقتها بالمستعمر الذي ما زال يطمع بالعودة إلى وطننا العربي، وأن تتحول لما يشبه الوكيل السياسي والاقتصادي والأمني لقوى الاستعمار، بل ونقلت العدوى إلى مجموعات ونخب سياسية مختلفة بدأت تسعى إلى التغيير من خلال أجندات الدول الغربية منتبهة أو غير منتبهة إلى أن هذا التغيير الآتي عن طريق الدول التي استعمرتنا، تعيدها للسيطرة والهيمنة علينا بطريقة أسوأ من سيطرتها على الأنظمة الحاكمة.
 
 لذلك نودّ أن نحذر وننبه إلى أن التغيير الحقيقي والمعارضة الأصيلة والشريفة البناءة يجب أن تعمل في الساحات الوطنية والقومية الواسعة، لا بالاعتماد على الأجنبي، ودونما الاستقواء به، لأن ثمن عونه ومساعدته لن تكون إلا بالإذدناب والتبعية، فينطبق عليها ما قاله الفيلسوف مالك بن بني، حين قال: "لن نتحرر إلا إذا تحررنا من داخلنا وتخلصنا من شعور التبعية للاستعمار".
 
 لن تصل شعوبنا العربية إلى مرادها إلا إذا نهضت وانتقلت بالأمة إلى مرحلة جديدة تتناسب وتتلاءم مع روح القرن الواحد والعشرين بكل متطلباته؛ حرية، ديمقراطية، مساواة، ودولة أو دول لجميع مواطنيها عبر إصلاحات عميقة وجدية أو ثورات وطنية خالصة محصنة من أي تأثير وتوجيه أو تدخل غربي، وما حصل في العراق وليبيا ما هو إلا الثقب الذي صنعه الغرب في الكرامة والحرية والديمقراطية...  يتوسع ثم يتم توسيعه حتى يجهز على الكرامة المنشودة وكل مرادفاتها وشعاراتها التي ترفعها المعارضة ضد أنظمة الحكم العربية، ويعيد الأمة إلى دائرة الهيمنة والسيطرة الغربية، المبنية أصلاً على إضعافها ونهب ثرواتها، وتفتيت مجتمعاتها وتجزئة المجزء، وتقسيم المقسّم كما حصل في السودان والحبل على الجرّار.
 
لذا فهناك حاجة ماسة إلى خطاب عروبي صادق وليس كلامًا يقال، بل ممارسة عملية يلتحم بها كل المطالبين بالتغيير، والنهوض بالأمة وفق استراتيجية عربية موحدة تشمل الحفاظ على وحدة الوطن العربي، ومحاربة عملية التجزئة الجديدة التي نظـّروا لها من خلال الفوضى الخلاقة والحفاظ على كرامة وحرية ومشاركة كل الناس بما في ذلك الأقليات الإثنية غير العربية، فهي جزءٌ من منظر وهيكل الأمّة العام مصيرنا هو مصيرها وهي عامل هام في الحفاظ على وحدة الأرض العربية. هذه هي بوّابة ولوج الأمّة إلى القرن الواحد والعشرين بعربيّ جديد لغدٍ مشرقٍ ملؤه العزّة والكرامة.