باستخفاف كبير واجهت الإدارة الأمريكية وأساطين المال الأمريكيون، بدايات حركة الاحتجاج في "وول ستريت"، ثم ما لبثت هذه الحركة أن تعاظمت وانتقلت من نيويورك إلى باقي المدن الرئيسية الأمريكية، واستمرت وما تزال حتى اليوم، ليس ذلك فحسب وإنما انتقلت إلى أوروبا، وبدأت بعض الدول الأوروبية في مرحلة الانهيار كاليونان مثلاً، والبعض الآخر منها وفقاً للمراقبين: في طريقه إلى الانهيار، مثل إيطاليا وإسبانيا والبرتغال. وقد بدأت بوادر الأزمات العديدة في هذه الدول.
 
ما يجري في العالم الرأسمالي من أزمات مستديمة يخيّب آمال فوكوياما وهننغتون اللذين رأيا: في الرأسمالية نموذجاً أخيراً في التاريخ، وقد حكم الأخير خياراته بالاستقرار على النموذج الرأسمالي، الذي جرى انتقاؤه من بين كل النماذج الاقتصادية الأخرى. ساهم في تعميم صحة هذا الرأي دوليا: الانهيار المدّوي للنظام الاشتراكي العالمي، بما يعنيه ذلك (في أذهان كثيرين): من انهيار للمذهب الاشتراكي الاقتصادي عالمياً أيضاً.
 
ما يحدث الآن من أزمة اقتصادية رأسمالية يعيد إلى الأذهان ما قاله آباء الماركسية عن هذا المذهب وتوقعاتهم (وبخاصة كارل ماركس): بأن الإمبريالية هي أعلى مراحل الرأسمالية، وأن مرحلة الإمبريالية ستقود الرأسمالية العالمية إلى حتفها المحتوم. الرأسمالية وبعد مرحلتها الإمبريالية، استطاعت اتخاذ خطوات بدت وكأنها الخلاص من أزماتها الاقتصادية، لكن هذه الخطوات لم تكن في حقيقتها خلاصاً نهائياً من أزماتها بالقدر، الذي هي في حقيقتها وجوهرها: تأخيراً ليس إلا، لمرحلة الأزمة المستعصية، والتي حُكماً ستبدأ في الظهور آجلاً أو عاجلاً. من ناحية ثانية، فهناك التصاق وثيق بين: المركز الرأسمالي وبين الإمبريالية، فالذي بدأ وكأنه نهاية للحقبة الاستعمارية، لم يكن في حقيقته سوى شكلاً من التحولات في سمات مرحلة الإمبريالية، من شكلها في الاستعمار المباشر باحتلال الدول إلى شكل آخر، تفرض فيه هيمنتها السياسية والاقتصادية على العديد من دول العالم، بواسطة وسائل أكثر رقّياً من الاستعمار المباشر، هذا من جهة.
 
من جهة أخرى، فإن المجمع الصناعي العسكري المالي الأمني في المركز الإمبريالي (الولايات المتحدة) ما يزال (ومن المستحيل أن يزول) هو المتحكم في القرارات السياسية والخطوات الاقتصادية التي يأخذها المعنيون والمسؤولون في المركز. هذا المجمع يؤثر في القرارات بالطبع، وفقاً لمصالحه واستمرار عمله وديمومته، ولا يمكن لهذه الديمومة أن تستمر، دون تطبيق أشكال جديدة من الإمبريالية عبر: الصدامات العسكرية (الحروب والاشتباكات)، وربط اقتصاد العديد من الدول، بعجلة المركز من خلال، مؤسسات ومسميات عديدة: البنك الدولي، اتفاقيات دولية عديدة اقتصادية، وغيرها. بما يشي ذلك؟ هذا يعني أننا ما زلنا في طور الإمبريالية، وإن كان تطبيقها يتم بوسائل جديدة.
 
لقد عقد معهد بروكنزالأمريكي عدة حلقات نقاشية حول الأزمة الرأسمالية ¸حضرتها نخبة من الخبراء الاقتصاديين الأمريكيين والعالميين، ووصل هؤلاء إلى نتيجة تفيد: بأن الأزمة الاقتصادية المالية التي تعصف بالولايات المتحدة والدول الغربية هي كبيرة وعميقة، لكنها عابرة (أي ممكن تجاوزها) ولن تؤثر في قيادة الولايات المتحدة للعالم. ونصحت هذه الندوات، الولايات المتحدة، بتخفيض النفقات السنوية في ميزانيتها. وبالفعل بدأت أمريكا في تقليص نفقاتها بما يزيد عن المليار دولار سنوياً، لكن هذا التخفيض لن يطال ميزانية الدفاع، الأمر الذي يعني أنه سيطال ميزانيات الضمان الاجتماعي والصحي بشكل رئيسي، وهو ما سيؤدي بالحتم إلى تفاقم الاحتجاجات من قبل الفقراء. في إحصائية اقتصادية يتبين: أن 40% من النمو الاقتصادي في الولايات المتحدة، خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، ذهب إلى ما نسبته 1% من السكان، أي إلى كبار الأغنياء، ولم يؤد هذا النمو إلى تحسين أحوال المجموع، وهم الفقراء، بحيث كانت النتيجة زيادة الأغنياء غنىً والفقراء فقراً.
 
كذلك يرى العديدون من الخبراء الاقتصاديين أن الأزمة الرأسمالية هي "أزمة بنيوية نظامية" أي أن الرأسمالية غير قادرة على تغيير بنيتها الاقتصادية (وإلاّ لكانت شكلاً آخر من المذاهب الاقتصادية)، وأنها غير قادرة على تغيير نظامها، أي غير قادرة على المساس بخيوط المجمعات الصناعية العسكرية المالية الأمنية المتحكمة في الدولة المركز. السبب في الأزمات التي تمر بها الرأسمالية من وجهة نظر بعض هؤلاء الخبراء: "أن الاقتصاد في السنوات الأخيرة تحوّل من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد ريعي مالي يقوم على الاستهلاك والدّيْن والمضاربات المالية (زياد حافظ –أستاذ جامعي وخبير اقتصادي، جريدة السفير اللبنانية 19/10/2011). تبقى حقيقة أن المركز الرأسمالي يعاني من تفاقم العجز السنوي وتراكم الديون عليه، حتى مع اقتطاع المليار دولار سنوياً، وعلى ذلك قس في الدول الرأسمالية الغربية الأخرى.
 
وفقاً لماركس وكما جاء في مؤلفه (رأس المال) فإنه من المستحيل: انفصال الرأسمالية عما يسمى بــ(القيمة الزائدة) المواكبة لهذا المذهب، والمتزاوجة عضوياً معه، بمعنى أنه وفقاً لهذا المبدأ لن يتخلى الأغنياء عن هذه القيمة مطلقاً، والتي تذهب في نهاية الأمر إلى جيوبهم، وتزيدهم غنىً، ولن تذهب هذه القيمة بالطبع إلى تحسين أحوال الفقراء والعمال الذين وبمضي الأشهر والسنوات سيزدادون معاناةً وفقراً.
 
ربما من المبكر القول: إن أزمة الرأسمالية ستوصلها وتؤدي بها إلى نهايتها المحتومة، لكن لا يمكن التقليل من هذه الأزمة البنيوية التي تزيد حدتها يوماً بعد يوم، وتفاقمها، في ظل الاستحالة التامة لإمكانية اتخاذ خطوات راديكالية بنيوية على طريق إيجاد الحلول لهذه الأزمات، التي تبدو أنها مستعصية شكلاً ومضموناً. من هذه النقطة بالذات يمكن القول: إن حركة الاحتجاجات الجماهيرية على الرأسمالية لا يمكنها التراجع، بل ستتفاقم وستزداد تأثيراتها.