تماماً مثل الأفلام الخيالية، نعيش واقعنا الحالي الذي تجاوز المنطق والعقلية الكلاسيكية التي كانت سائدة في سنوات ما قبل العولمة في آخر تجلياتها التي مهدت لبروز ثورة في وسائل الاتصال والتكنولوجيا الحديثة التي غيرت من العالم، وأسرت قلوب وعقول ملايين البشر في مختلف برامجها وأدواتها وتقنياتها.

ومع هذه الثورة التكنولوجية، حضرت شبكات التواصل الاجتماعي، وتطورت بطرق دراماتيكية غيرت من مفاهيم الاتصال والتواصل بين مختلف شرائح البشر وفي أي بقعة من العالم، وأصبحت تلك المنصات منابر للكثير من المجتمعات والأفراد، وحاضنة متنوعة وغنية بالأفكار والتوجهات والرؤى.

إنها تماماً جزء من العولمة التي لا تعترف بالحدود وتسعى للتوسع والانتشار، ولربما يعتبر الموقع العالمي "فيسبوك" الأشهر بين جميع شبكات التواصل الاجتماعي، نموذجاً وعالماً بحد ذاته، يوازي العالم الحقيقي على كرتنا الأرضية.

في بلوغ عامه العاشر، تمكن الموقع "فيسبوك" من اجتذاب وضم حوالي مليار ومائتي مليون مشترك حول العالم، وفي كل عام منذ انطلاقة الموقع على يد مارك زوكربيرغ ورفاقه، كان يكسب ملايين البشر، بحكم ما يتمتع به من تقنيات تسهل طبيعة التواصل مع مختلف شرائح الناس.

إنه منصة تواصل اجتماعي رهيبة وعالم افتراضي قائم بحد ذاته، ذلك أنه يوفر خدمات للأفراد، الأمر الذي يجعله يتمتع بمغريات كثيرة تستقطب الناس إليه، فمن نافذة التواصل على الخاص، إلى إمكانية التواصل على العام والتعليق والتفاعل الإلكتروني، يمتلك فيسبوك خواص كثيرة تتيح للأشخاص التعبير عن وجهات نظرهم وضخ صور ومقاطع فيديو... إلخ.

لم يكن مقدراً للكثير من البشر في العالم الحقيقي، التواصل فيما بينهم بالوسائل الأخرى، أو حتى إبداء وجهات نظرهم بحدود مساحة الحرية المحددة لهم، لكن فيسبوك يشكل منبراً لعرض وتبادل وجهات النظر ومنصة للتنفيس عما يجول في الصدر.

وهذا الموقع أصبح يلقى رواجاً كبيراً في الوطن العربي، خصوصاً وأن عدد المشاركين فيه تجاوز الخمسين مليون مشارك، ومن المتوقع أن يزيد هذا العدد في المستقبل المنظور، لأن التوجه العالمي اليوم بات يقتضي اللحاق بالتكنولوجيا واستخدامها في كافة مناحي الحياة.

أما في فلسطين، فيمكن القول إن فيسبوك يحظى بأهمية فائقة عند كافة الأجيال هناك، ذلك أن مستخدمي هذا الموقع تجاوز المليون شخص، وتعتبر فلسطين من أكثر دول العالم استخداماً لهذا الموقع مقارنةً بعدد السكان، مع العلم أن نسبة مستخدمي الانترنت تجاوزت 53%.

هذه الإحصائيات صدرت عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في أيار العام الماضي، وبطبيعة الحال يعتقد أن هناك زيادة متواصلة لاستخدام فيسبوك، قياساً بامتلاك أكثر من نصف الأسر الفلسطينية لجهاز حاسوب، إضافةً إلى الأجهزة النقالة الذكية التي يتوفر فيها خدمة تصفح الانترنت واستخدام فيسبوك.

ويبدو أن هناك أسباباً كثيرة لاستخدام هذا الموقع من قبل الفلسطينيين، فإلى جانب كونه موضة عالمية مرغوبة من قبل الكثيرين، فإنه يشكل عند الفلسطينيين، منبراً للتعارف والتلاقي بين الأصحاب والأحباب، ونافذة مهمة تطل من عالمهم على العالم الأوسع.

إن العالم الافتراضي يقدم إغراءً كبيراً عن العالم الواقعي، فهناك محاذير ربما لا يستطيع الأفراد الحديث عنها، لكنهم ينغمسون فيها عند الولوج إلى المواقع التفاعلية التي تبني مجتمعاً افتراضياً مبتعدا إلى حد ما عن أجهزة الرقابة والمنع الأمنية وغيرها.

قد يدل الاستخدام الكبير للانترنت في فلسطين على وعي متقدم من قبل الجمهور لأهمية التكنولوجيا ولما توفره من خدمات كثيرة، ولا يمكن إغفال أن فيسبوك يشكل ميداناً للنضال السياسي ورفض الاحتلال الإسرائيلي والكشف عن عنجهيته وغطرسته.

ويبدو أن الفلسطينيين على اختلاف مشاربهم وشرائحهم، استخدموا فيسبوك للتشهير بصلف الاحتلال واعتداءاته المستمرة على الشعب الفلسطيني، وأيضاً وجهوا رسائل كثيرة سياسية واجتماعية وغيرها، وناقشوا قضايا داخلية تعرضت للانقسام الفلسطيني والمصالحة.

يمكن القول إن التشتت الفلسطيني تجمع في فيسبوك، بحيث التواصل أصبح سهلاً وسريعاً بين أبناء شطري الوطن، وأيضاً بين أهل الداخل والخارج، الأمر الذي دفع شريحة المتقاعدين والمتقدمين في السن، لتعلم التكنولوجيا والغوص في عوالمها.

ولعل الاحتلال متيقن لضرورة استخدام التكنولوجيا وتصيد المستخدمين الفلسطينيين على فيسبوك، وهناك الكثيرون منهم يتعرضون يومياً لتهديدات معلوماتية وقرصنة وهجوم مفيرس وسرقة بيانات، ما جعل هذا الموقع ميداناً للاشتباك مع الفلسطينيين.

ربما واحدة من العوامل التي حفّزت الفلسطينيين للولوج إلى فيسبوك بكثرة، تتصل بالواقع المُعاش، ذلك أن البطالة المقنعة ونسبة العاطلين عن العمل كبيرة، ونتحدث هنا عن بيئة صعبة بحكم الاحتلال الإسرائيلي القاسي، ولا توفر سبل العيش الرغد للشباب.

مع ذلك هناك مع الأسف استخدام خاطئ للتكنولوجيا ومنها فيسبوك، إذ على سبيل المثال، لا حدود للعمر في الوصول إلى هذا الموقع، مع أنه يشترط سن الثالثة عشرة فما فوق، ويمكن لأي شخص تزوير بياناته الشخصية وبكل سهولة إنشاء نافذة خاصة به.

أضف إلى ذلك، أن هناك تصرفات ساذجة وسطحية وتعبر عن العقل الطفولي والمتخلف الذي يحملها، وكثيرون من "يتفشخرون" بأن لديهم أصدقاء كثرا وأن قائمة معارفهم كبيرة وغنية، في حين أن عدداً لا بأس به من المستخدمين يستطيلون الإقامة وربما ينامون على الفيس من شدة تعلقهم به.

إن الإدمان على فيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى ساهم في ارتفاع معدلات الطلاق بالأراضي الفلسطينية، وصلت إلى أربعة آلاف حالة خلال العام 2013 وبنسبة زادت عن 20% قياساَ بالأعوام السابقة، حسب تقرير سنوي صادر عن المحاكم الشرعية في الضفة الغربية.

بالتأكيد ليست كل أسباب الطلاق منبعها مواقع التواصل الاجتماعي، لكن هذه الأخيرة توفر الشرارة خصوصاً عند الشباب المتزوجين الجدد، لإضعاف وإرباك المؤسسة الزوجية، لأن تلك المواقع يمكنها أن تشكل العالم الافتراضي الذي يتمناه الشباب أن يكون موجوداً في عالمهم الحقيقي.

ثم إن غياب المؤسسة الأسرية عن الرقابة والتوجيه والإسناد لجيل المستخدمين من المراهقين والشباب، يعني وقوع هؤلاء في مشكلات كثيرة تنجم من وراء استخدامهم الخاطئ للفيسبوك، الأمر الذي يعني ضرورة متابعة ومراقبة الأسرة لهذه الشريحة.

إذا كان من الممكن استغلال التكنولوجيا والولوج إلى فيسبوك واستخدامه بشكل واعٍ ومسؤول، فإن علينا حقيقةً التركيز على شريحة الشباب والمراهقين، لأن هؤلاء يمثلون تقريباً ثلثي مستخدمي الانترنت، وهذا يعني أن مسؤولية الرقابة تقع على المؤسستين الرسمية والمجتمعية.

وليس من الضروري القول إن على الفلسطينيين اعتبار فيسبوك ميداناً أو منصةً للاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي، إنما من المهم إعادة النظر في تعاملنا مع وسائل الاتصال هذه بمسؤولية عالية، وعلى أن نخضعها لمنطق عقلاني يجعلنا نستفيد منها دون أن تؤثر سلباً في سلوكياتنا أو نمط حياتنا.