من الظلم القول إن الأحزاب والحركات الوطنية لا تفطن بالأرض إلا في ذكر ى يوم الأرض. وقد تحوّل هذا القول إلى مقولة شعبية تتناقلها الألسن بسهولة وبخفة، وقد تكون نابعة من إحساس صادق ومن رغبة جياشة في رؤية الهيئات القيادية تبذل المزيد من الجهد والفكر لحماية الأرض والإنسان ووقف الهجوم المتصاعد عليهما. وقد تكون أيضًا صادرة عن أناس احترفوا الهجوم على الأحزاب والسياسيين دون تمييز بينهم ودون تحديد درجة المسؤولية.

مع ذلك فإن هذا القول فيه الكثير من الحقيقة، وبالتالي لا يجوز تجاهله أو التحايل عليه عبر استعراض النشاطات الشعبية والميدانية والسياسية والتثقيفية التي تجري على مدار السنة.. للدفاع عن البيوت وعن الأرض وعن الهوية، وكذلك تلك المتعلقة بالمطالبة بتطوير الأوضاع الاقتصادية والتعليمية والثقافية للفلسطينيين في "إسرائيل".

إن ما يغيب عن المنتقدين في هذه المقاربة لأسباب العجز والأزمة الملازمتين لهياكل المجتمع العربي داخل الخط الأخضر، هو البعد الفكري. ولا يُلام عامة الناس على صعوبة إدراك هذا الجانب، خاصة عندما لا يوفر لهم النخب والنشطاء المثقفون من شروح مبسّطة تُسهّل عليهم المهمة. أي مهمة معرفة الخلفية الذهنية والمعرفية التي تقف وراء القصور والعجز عن تحويل الإنجازات الهامة التي حققها عرب الداخل على مدار عقود إلى بنية تنظيمية ومؤسساتية صلبة.

مثلاً لنسأل الأسئلة التالية الني يمكن أن تسهل علينا الدخول مباشرة إلى الموضوع:

لماذا انقطع تأثير يوم الأرض الخالد على وتيرة النضال الشعبي وعلى البنى التنظيمية القائمة؟ أو بكلمات أخرى لماذا لم تولّد هذه الهبة الشعبية الجريئة والشاملة أيامًا كفاحية أخرى بنفس الحجم والهالة؟ ولماذا واصل نظام الأبارتهايد الإسرائيلي الكولونيالي، السطو على الأرض بصورة جامحة؟ ماذا كان مطلوبًا عمله بعد هذا اليوم التاريخي لصالح جزء من شعب فلسطين قدّر له أن يعيش تحت حكم الدولة العبرية بعد النكبة ويتعرض لحصار وقطع عن محيطه الفلسطيني والعربي، رغم فرض المواطنة الإسرائيلية عليه؟

ولماذا لم يتم النهوض بالوعي الوطني النامي نحو آفاق جديدة؟ لفترة طويلة أسمعت الأوساط والنخب المعارضة للحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي كان له دور مركزي في التحضير ليوم الأرض، رأيها، وهو رأي أو تشخيص صحيح، والقائل بأن سقف برنامج هذا الحزب لم يكن يتسع لاحتضان تفاعلات يوم الأرض الوطنية. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنه بدل تحويل يوم الأرض لمناسبة تستغل لتوسيع قواعد الحزب الشيوعي، وتحويل أهم لجنة وطنية شاملة ظهرت آنذاك إلى إحدى مؤسسات أو لجان الحزب، كان يجب بناء مؤسسات قومية جامعة حقيقية تشمل كل مكونات المجتمع السياسية والأهلية والمثقفة، وتعبّر عن وجود أقلية فلسطينية قومية متماسكة، وتترجم المدلولات الوطنية والسياسية لهبة يوم الأرض إلى فعل سياسي فاعل ومستمرّ.

إن غياب هذه الرؤية القومية الجامعة وسيطرة النزعة الفئوية ومفهوم الأخوة العربية –اليهودية بصورته الرثة والمشتقة من الفهم المشوّه للأممية الماركسية، والمتأثرة من "الوطنية الإسرائيلية"، حفّزا ظهور قوى ذات بعد قومي على الساحة تنافست مع الحزب الشيوعي. وقد اتخذ هذا التنافس منحى مؤذيًا ومضرًا كالتخوين. ومن أهم هذه القوى الحركة التقدمية التي ظهرت نواتها الأولى في الناصرة عام 1978 قبل أن تتشكل كقائمة انتخابية للكنيست عام 1984، وبعدها حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي مثل خطوة نوعية متقدمة في مجال تنظيم الحركة الوطنية في الداخل. كما أن حركة أبناء البلد التي ظهرت في أواخر الستينيات ازدادت قوة وحضورًا بين الطلبة العرب في الجامعات الإسرائيلية. وقد كانت الحركة من المبادرين الأساسيين لإقامة التجمع.

وجاء زلزال أكتوبر، هبة القدس والأقصى عام 2000، ليرفد هذا التوجه الوطني بالمزيد من القوة والمضامين الجديدة. ولكن عوامل عديدة حالت حتى الآن دون استثمار هذه المتغيرات في الخريطة السياسية والحزبية لعرب الداخل؛ وهذه العوامل تتصل بموقف القوى التقليدية الرافضة لرفع السقف السياسي لبرنامجها. كما أن للقصور الذاتي الذي تعاني منه معظم الحركات والأحزاب الأخرى التي تدعي تميزها عن الحزب الشيوعي كالحركات الإسلامية والتي تبغي التغيير وفق المفهوم الجديد، دور في العجز عن التقدم في مهمة تنظيم الجماهير العربية.

تجربة لم تكتمل

وكان من المفروض، ولم يفت الوقت، أن تقف الهيئات التمثيلية والحركات والأحزاب السياسية بصورة جدية أمام تجربة مقاومة مخطط برافر الاقتلاعي ضد فلسطينيي النقب، وأمام الإنجاز المعنوي الذي تحقق يفضل الهبات الشعبية التي شهدها الصيف الماضي (2013). من المؤسف أن هذه التجربة التي لم تكتمل لم يتم تناولها من جانب الهيئات التمثيلية بل تهربت منها أيضًا حركات وأحزاب سياسية. كان ذلك تهربًا من استحقاقات هذا الإنجاز وما يتطلبه من تطوير واستمرارية ومن تبعاته الواجبة. إن هذه الهياكل غير مؤهلة للتعامل بشجاعة وبروح خلاقة مع هذا المعطى الجديد. وأقصد بالمعطى الجديد ابتكار أيام الغضب وإغلاق الشوارع.. والذي شمل أيضًا تطوراً جديداً هو بروز دور الحراك الشبابي الذي أضفى بعدًا صداميًا ومؤثرًا في أيام الغضب. كان من المفترض أن يتواصل تطور هذا النضال؛ عبر توسيعه، والحفاظ على ديمومته وخلق الأدوات اللازمة لذلك.

كان حزب التجمع كحركة وطنية مناضلة يدفع منذ أكثر من ثلاثة أعوام باتجاه التصعيد، التصعيد المدروس. والتقى توجه التجمع مع استعداد أوساط في النقب لرفع وتيرة النضال، ومع رغبة أوساط شبابية فاعلة مرهفة الحسّ بالظلم الواقع علينا، والتي لديها مقدرة على فهم مستلزمات النضال. بطبيعة الحال، ليس بإمكان طرف واحد إحداث "ثورة"، طالما هو واحد من عدة أطراف مركزية. ومن هنا يأتي نقد التجمع لهذه البنية التنظيمية القائمة وللعقلية السياسية السائدة فيها. هي عقلية استرخت منذ زمن طويل داخل إسار الروتين. والرافضة لإعادة هيكلة البنية التنظيمية والمؤسساتية بصورة جذرية.

إن هذه الحالة الراهنة يمكن تلخيصها بالتالي:

أولاً: غياب مركز موحد يستند إلى رؤية سياسية متفق عليها، ويفرض حضوره وهيبته على الجماهير العربية. إن الجسم الذي من المفروض أن يلعب دور هذا المركز  هو لجنة المتابعة ليس فقط كدور كفاحي بل دور سياسي وطني يحدد ويمارس العلاقة الكفاحية مع نضال باقي التجمعات الفلسطينية؛ في الأرض المحتلة عام 67 وفي الشتات. ولكن هذا المركز هش وضعيف الحضور وفاقد للهيبة. وبالتالي لا مفرّ من تفعيل مشروع الانتخاب لهذا المركز والبدء بالتحضير له فورًا. والمقصود انتخاب قيادة وطنية موحدة (برلمان عربي) أي تنظيم فلسطينيي ال 48 على أساس قومي. وهو مشروع يرفضه التيار السياسي التقليدي الذي يؤيد الاندماج.

ثانيًا: غياب إستراتيجية نضال شعبي تقوم على شبكة من اللجان الشعبية في كل مكان، تقوم بدور التنظيم والتحشيد للمظاهرات والاعتصامات والإضرابات. وهو الأمر الذي يضمن ديمومة النضال والحراك الشعبي. وتشمل وضع أهداف عينية واقعية وأهداف إستراتيجية.

لم يعد بعد هذا اليوم، أي بعد المتغيرات الأخيرة الحاصلة على ساحة عرب الداخل، لأي من القوى السياسية العذر في قصورها أو عجزها عن البدء بتحريك الوضع نحو أفق وطني حقيقي يبدأ بنقل "الأقلية الفلسطينية" إلى مرحلة جديدة من التنظيم والفعل، وأيضاً في تطوير شكل العلاقة الإستراتيجية واليومية مع بقية تجمعات الشعب الفلسطيني. ومن نافل القول إن النجاح في تحقيق هذه النقلة يصبّ بطبيعة في صالح النضال الفلسطيني العام على المدى الإستراتيجي. إذ أن الحراك السياسي والشعبي لعرب الداخل والتحدي الأيديولوجي للنظام الكولونيالي الإسرائيلي يساهم في فضح وعزل وإضعاف السلاح الأيديولوجي للحركة الصهيونية.

***

ليس بإمكان حزب التجمع وحده تحمل العبء، وتحمل تبعات التصعيد، الذي يدعو إليه ومنذ سنوات، بدون توفير مستلزمات تفعيل النضال الشعبي على قاعدة التواصل والاستمرارية وليس بمقدور أي طرف آخر تحمل المسؤولية لوحده. لكن طالما كل أسباب القهر متوفرة، وطالما يتجدد الوعي بالقدرة على التغيير خاصة بين أوساط الأجيال الشابة، فإن الأفق مفتوح على كل التطورات التي تعد بتصعيد المجابهة مع مخططات السلب والتهويد واستهداف النسيج الوطني للمجتمع. وبالتالي فإن حزب التجمع لن يتوقف عن الاجتهاد والعمل والدفع نحو هذا الأفق، متعاونًا مع الأحزاب والأطر والشخصيات التي تثق بطاقات شعبها وبمستقبله.