كم من ضحايا هذا العالم الثالث التعيس يتمنون لو كانوا اليوم: شارلي!

يتساءل البعض، لماذا لا تبدي مجتمعاتنا تضامناً كثيفاً مع جراح العالم 'الأول' عند كل عمليّة قتل، كالتي حدثت في باريس؟ وقد يخطئ البعض حين يظن أن الحديث هنا عن مجرّد تشفّي شرقي بأحزان الرجل الأبيض. ليس الأمر كذلك، بل هو مركّب من عوامل عدّة، منها موروث العلاقة بين شعوبنا ودول الاستعمار الغربي التي نهبت مقدرات بلادنا واحتلتها لسنوات عديدة، ومن ثمّ تشغيلها لمنظومة الاستعمار عن بعد وسيطرتها على أوطاننا، بما يشمله ذلك من دعم لمستبدين ولأنظمة حكم عميلة ومتواطئة، وبالتالي إنتاج مشكلات الهجرة عند الشباب العربي، الذين أصبحوا مهاجرين في تلك البلدان.

تميزت جريمة شارل إيبدو بإضافتها عاملاً آخر للاستخفاف الشرقي بالتضامن، هو التضامن مع حريّة التعبير، بحيث يعرف المواطن العربي مدى ممارسة أوروبا والعالم الغربي عموماً وفرنسا تحديداً نفاقاً وتلوناً في ما يتعلّق بحرية التعبير، ليس فقط بما يخص التساؤل حول ما تشمله حدود حرية التعبير ومعايير تحديد المسموح والممنوع في الأمور الداخلية الأوروبية، بل لأن الحريّات كانت على مدار السنين حجّة من لا حجة له للتدخل بأوطاننا، وأن التعامل معها لطالما كان إنتقائياً: ففي حين غزت أميركا بالتعاون مع دول أوروبا العراق وقامت بتدميره بحجة الدفاع عن الحريات والديمقراطية، تتحالف مع السعودية، أكبر عدو للحريّات في المنطقة، والداعم الأول لأنظمة القمع والرجعيّة، بل تقوم فرنسا بفتح بلادها والأحياء المسلمة فيها تحديداً، مقابل ملايين الدولارات السعودية، لمشايخ الوهابية التي أنتجت وما زالت تنتج أعتى أنواع التطرف، الذي كانت نتيجته الأخيرة بهيئة منفذي العملية الأخوين كواشي.

الوقوف ضد العمليّة مهم، خصوصًا في واقع مُر لأمة عربية يُقتَل أبناءها على اختلافهم بالرأي وبالعقيدة والمذهب. ومن دون علاقة بالنقاش حول تعدّي شارلي إيبدو حدود حريّة التعبير أم لا، فإن الوقوف ضد العمليّة والتثقيف حول التعددية ليس مهماً من باب الموقف الأخلاقي فقط، بل لأن القتل بسبب الاختلاف سوف يلاحق أيضاً من يظن أنه في قلب الاجماع المجتمعي وأن لديه حصانة من العنف، وقد يكون أحد أهم رسائل العام الماضي، هو أنه لا حدود للتكفير والقتل بسبب الاختلاف بالرأي، وقد رأينا كيف يكفّر ويقتل تنظيم سُني سلفي أصولي تنظيما سُنيا سلفيا أصوليا آخر. السيف الذي قطع رقبة غريمك اليوم سوف يصل رقبتك غداً إن سكتت عنه وإن كنتَ متديّناً معتدلاً. 

الوقوف ضد العمليّة مهم، لكن الوقوف ضد هذا الكم الهائل من التضامن العالمي والمُعولم مع شارل إيبدو ليس أقل أهمية؛ لأن هذا التضامن الضخم يرسل في نهاية المطاف برسالتين، أولهما: أن المَوت بسبب حرية التعبير، هو أمر أهم بما لا يقارن، بآلاف المرّات ربّما، ممن يموت جوعاً وسقيعاً وفقرا، فلا عزاء إذن لأطفال المخيمات السورية إن ماتوا برداً او جوعاً؛ ثانيهما: أن من يموت بسبب حرية التعبير عن الرأي في أوروبا ليس ذي قيمة بالشرقي الذي يموت دفاعاً عن حرية التعبير عن الرأي؛ فلا عزاء للمدون السعودي رائف بدوي، الذي حكم عليه بألف جلدة في السعودية بسبب مواقفه المعارضة للنظام، سوى أن يقول: يا ليتني شارلي!

التضامن المعولَم الضخم مع شارلي إيبدو يُظهر خلاصة الإمبريالية: أمم كاملة تتضامن بشكل رهيب: وكالات الأنباء تبعث بواسطة تطبيقاتها على الهواتف الذكيّة عشرات الرسائل حول كل جديد في باريس وضواحيها، وملايين الناس تحبس أنفاسها وتلازم شاشات الإعلام لأيّام لترى مصير الرهائن ومصير الإخوين كواشي (كما حبست أنفاسها لمصير 10 أستراليين احتجزوا قبل أسابيع في وقت قتل في اليوم نفسه مئات الطلاب الباكستانيين دون اهتمام يذكر). كل هذا الاهتمام في حين أمم كاملة تموت برداً وتشرداً بفعل فاعل، وفي حين يموت أكثر من 30 مليون شخص سنوياً بسبب الجوع (بشكل مباشر وغير مباشر)، ويصوّر أمرها على أنه قضاء وقدر.

في الوقت الذي يُنصّب الحدث على أنه '11 سبتمبر الفرنسي'، وتتفاقم الحملات الدعائية المتضامنة مع الضحايا، وتعلن الحكومة الفرنسيّة عن نيّتها 'محاربة الإرهاب' وتدعو الجماهير إلى مظاهرات مليونية (يشارك فيها وزراء إسرائيليون)، وقد طوّرنا القدرة على التوقّع ما سيحدث بعد أن تدعو أنظمة النّاس للتظاهر، بالتزامن مع نيّتها محاربة الإرهاب؛ ما أحوجنا في هذه الظروف إلى حملات إعلامية لا تتبنى البهرجة المعولمة المتضامنة المُتناسية لكل العوامل التي أدت إلى ما حدث وشعارها #أنا_شارلي، بل تطرح خطاباً آخر لا يُبرر القتل ويطرح أمام المجتمعات الأوروبية الرأي المُطالِب بإعادة النظر في سياساتها تجاه العرب والمسلمين والمهاجرين. 

(الطيبة)