كان هناك مقولة لأستاذ الفنون المسرحية في تونس، محمد عبازة، بأنه قبل الربيع العربي كانت تُمارس علينا رقابة من نخبة متسلطة لكنها مثقفة، وأصبحنا اليوم محط انتقاد ومحاصرة من فئة شعبوية جاهلة. ويفسر هذا القول، إلى حد كبير، الموقف السلبي لمثقفين عرب كثيرين تجاه الحراك الثوري العربي. 

تفضل النخب العربية (استبداد المثقف) الذي تعرفه وخبرته عقوداً على تجريب اختيار الشعوب، ولا ترغب في ركوب موجة الانتفاضات العربية، بحثاً عن تحول ديمقراطي ينهي فيروس الاستبداد، لأن في هذه العملية رهاناً محفوفاً بمخاطر عليها وعلى أوضاعها الهشة، وربما على امتيازاتها. 

إنه موقف رجعي من التغيير والديمقراطية، والعجيب أنه جمع يساريين ويمينيين، حداثيين وتقليديين، علمانيين ومتدينين، مثقفين وفقهاء، تكنوقراطيين ومناضلين. وجد هؤلاء أنفسهم في قارب واحد، الخوف من الشارع، من الجماهير، من الثوار، من الشباب. 

يصبر المثقف العربي على استبداد السلطة "المثقفة"، لكنه لا يصبر على "جهل وشعبوية" قوى منتخبة جاءت بالاقتراع. إنه مستعد للتوافق مع الاستبداد المتنور، إن كان هناك نور في الاستبداد، لكنه غير مستعد للتوافق مع الديمقراطي "الشعبوي أو الجاهل"، بتعبير محمد عبازة الذي وضع يده على أكبر جرح في جسم النخب العربية الثقافية والسياسية والاقتصادية اليوم. لا ترى هذه النخبة الاستبداد أصل كل شر، والديكتاتورية سبباً مباشراً لانتعاش الأصوليات المتطرفة التي يتذمر منها المثقف اليوم، وأن الناس عندما أقصاهم المستبد من مسرح السياسة توجهوا إلى المسجد واعتصموا هناك، فالمواطنون الذين حرمتهم الدولة من المشاركة في تدبير السلطة وإدارة الثروة والمكانة الاجتماعية ذهبوا إلى قاع المجتمع وأحيائه وحاراته وعشوائياته وأحزمة الفقر والبؤس، وبنوا لأنفسهم سلطة خاصة بهم، وطوّروا جماعات وجمعيات ونقابات وروابط، تقدم خدمة اجتماعية للفقراء، وتقدم معها إيديولوجيا هدم الدولة بمن فيها وعلى من فيها. الدولة التي أقصتهم من ثمرات التنمية والمشاركة والحرية والاعتراف والاستحقاق. عمدوا إلى تكفيرها وإخراجها من الحقل الرمزي الديني، حيث أصبح الأخير خط الدفاع الأخير أمام الفئات الوسطى والمحرومة في مواجهة استبداد السلطة وطغيانها وجبروتها. لم يفهم المثقف العربي أن الثورات العربية قدمت له طوق نجاة من الاستبداد، وأن تأييد التغيير والنضال من أجله ليس توقيع شيك على بياض للأصولي أو السلفي أو غيرهما من قوى تختارها المجتمعات في ظروف صعبة، وبعد أن جفف الاستبداد أرض السياسة، ولم يترك سوى قوى دينية اعتصمت بالمسجد والمقدس، لمواجهة التسلط. 

وظيفة المثقف في المراحل الانتقالية دقيقة ومعقدة، وتتطلب نفساً قوياً، وتواصلاً كبيراً مع الشعب لمساعدته على وضوح الرؤية وحسن الاختيار واحترام ضوابط العملية الديمقراطية بدءاً من صندوق الاقتراع، صعوداً نحو احترام التعددية والحريات الفردية وحق الأقلية في أن تصير أغلبية. 

في فيلم "طيور الظلام"، يلتقي الإخواني المعتقل بتهمة العنف مع السياسي عن الحزب الحاكم المتهم بالفساد (عادل إمام)، يقول الأخير لزميله في السجن: نحن حزب لا يعرف كيف يتحول إلى جماعة، وأنتم جماعة لا تعرف كيف تتحول إلى حزب. وتلخص هذه الجملة المأزق المصري والعربي. جماعات دينية تحكم المجتمع، لكنها لا تعرف كيف تتحول إلى حزب، والحزب الحاكم الذي يسيطر على مفاصل الدولة لا يعرف كيف يصير جماعةً تتواصل مع المجتمع، أو بالأحرى مع قاعه، وتعرف أهله وناسه وثقافته ومعاناته. 

إذا كان الإسلاميون يمثلون الجهل والتخلف والشعبوية، فيجب أن تعطى للمجتمع فرصة لمحاكمتهم، وأن يعرضوا على محكمة الشعب في صناديق الاقتراع، وألا يظلوا سلطة كبيرة في المجتمع، تتحكم في ثقافته وحركته ومفاهيمه وأنماط تدينه، من دون حساب ولا عقاب، هذا هو الخطر الكبير على تطور المجتمع. ليس قدرنا أن نختار فقط بين مستبد مستنير وإسلامي جاهل وظلامي. هذان أمران أحلاهما مرّ.