انتهى 'الملف' والتحريض (ربما لحين)، لنناقش الآن المعنى السياسي له. معركة الشطب الأخيرة ومحاولات منعنا من خوض الانتخابات للكنيست وراءنا، لكن معناها وتحديد تأثيرها ما زال أمامنا. لقد سيطرت أجواء التحريض وغطت على المعنى السياسي الذي يمكن أن نستوعبه من 'صدمة' الإسرائيلي لما نقوله ونعبر عنه، وربطنا التحريض بتصريحات 'هم ليسوا إرهابيين'، وبالمشاركة في 'مرمرة'، لكننا لم نخط خطوة أعمق باتجاه السؤال ما سبب التحريض بالضبط؟

وبماذاتختلف المشاركة (في أسطول الحرية) وتلك التصريحات عن سواها من نشاطات وتصريحات تتماثل مع شعبنا ونضاله؟ وما هو المعنى السياسي الأعمق من 'الغضب' الإسرائيلي على تصريحات نعتبرها بديهية، ولم نكن نحن لنتوقف عندها، أو حتى لتلفت نظرنا، لو لم يتوقف عندها الإسرائيلي بإعلامه وبرلمانه وسياسييه؟

إن القضية السياسية العميقة الكامنة وراء ضوضاء التحريض، هي المعركة على حسم أو محاولة حسم السؤال: هل تشمل المساواة قبول العربي كفلسطيني يتماثل مع نضال شعبه دون تردد؟

 لقد دار سؤال المساواة هذا، المساواة في حق الانتماء، في نقاش قانوني بعيد عن أعين الجماهير، وعن تشكيل الوعي العام الفلسطيني والإسرائيلي، نقاش سياسي في جوهره، كان من المفروض أن يطرح بيننا وبين المجتمع الإسرائيلي،  في المنابر السياسية والإعلامية، لكن العمى العنصري يمنع ذلك. 

لقد دارت معركة الشطب الأولى عام 2003 والتي استهدفت عزمي بشارة والتجمع، حول سؤال 'دولة المواطنين'، أي حول سؤال هل تقبل الدولة المساواة بين العرب واليهود، لتنتقل عام 2015 حول سؤال معنى المساواة، فيكون السؤال هل تقبل المساواة مفهوم العربي المتماثل تماما مع نضال شعبه؟ أو إن شئتم وبتعبير أدق انتقل النقاش الذي فجره التجمع عام 2003، من معنى 'المساواة'، إلى معنى 'العربي'، ليكون السؤال هل نعني بكلمة 'العرب'، ذلك الجزء الذي يعتبر نفسه جزءا من الشعب الفلسطيني، ويتماثل مع معاناة شعبه ونضاله؟

في مسيرة التناقضات الجوهرية والواضحة بين بديهيات 'الدولة اليهودية' وبين بديهيات وجودنا، والتي بلورت سياسيا بشكلها الأكثر وضوحا من خلال مشروع 'دولة المواطنين'، علينا أن نميز النقاط التالية:

1.      لا تفرز تلك التناقضات السياسية الجوهرية مواجهة سياسية حقيقية حولها، إلا في حالات 'صدامية'، وفقط في هذه الحالات الصدامية، يعيرها الرأي العام الإسرائيلي 'اهتماما'، وبطريقته طبعا؛
2.      التأثير السياسي لتلك التناقضات، في اتجاه 'محاولة' إقناع الدولة بها، لا تتم عبر نقاش سياسي حقيقي، حيث تغلب الأجواء التحريضية والنقاش العقيم على الساحة السياسية، بل عبر نقاش قانوني؛
3.      لا ينتقل النقاش القانوني (الذي كان حتى الآن في صالحنا) إلى الإعلام والساحة السياسية، ولا يفرز نقاشا سياسيا حقيقيا، وبالتالي يبقى تأثيره على الوعي العام شبه معدوم. مما يعني أن الرأي العام الاسرائيلي لا 'يذوت' قرار المحكمة ونقاش الدفاع، كجزء من ثقافته واستنتاجاته السياسية. 

النقاش القانوني – السياسي الذي دار أمام المستشار القانوني، هو في صالحنا(كأقلية فلسطينية في الداخل)، ليس لأنه أكثر تفهما لموقعنا التاريخي، بل لأنه يتبع قواعد لعبة أكثر صرامة، ويحتاج لبينات، ويدور بعيدا عن أعين الجمهور الغاضب، مع ذلك هو يؤسس لمنطق نحتاجه ليس فقط أمام الآخر، بل أمام مجتمعنا نفسه، الذي يميل بفطرة 'صراع البقاء'، إلى خفض الرأس كلما مرت عاصفة، لكنني لست من أولئك الذين يؤمنون أن الرأس حتما يعود ليرتفع لنفس النقطة بعد كل انحناءة.

في هذا السياق علينا أن نتوقف عند 'استنتاج' المستشار القانوني الحالي فيمعرض رده للمحكمة على دعوى الشطب، بالتصريح بأن زعبي 'تنتمي إلى أقلية قومية في البلاد، كما أنها تعرف نفسها في تصريحها، على أنها جزء من الشعب الفلسطيني وبالتالي تتماثل من هذا الموقع مع نضاله'.

جملة غريبة بعض الشيء، فالمستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية يبدو أنه يستوعب أن 'التصريحات' تنبع من انتمائنا لشعبنا، كما أنه يطلب من لجنة الانتخابات 'أن تستوعب ذلك'، أي أنه يوضح، يبدو ذلك على الأقل، أن سبب  التحريض هو أن الرأي العام الإسرائيلي لم يستوعب بعد أننا جزء من الشعب الفلسطيني.

وهنا علينا أن نسأل نحن أنفسنا، لماذا لم يستوعب المجتمع الإسرائيلي خطابا نقوله ليل نهار، وتحمله كافة الأحزاب والقيادات ولجنة المتابعة وهيئاتنا وجمعياتنا وأعضاء الكنيست العرب؟ وإذا كانت تصريحات معينة، تفقد المجتمع الإسرائيلي صوابه، فماذا مع التصريحات الأخرى والتي تشكل حصة الأسد من خطابنا؟ بماذا أقنعت الشارع الإسرائيلي؟

على ما يبدو، علينا أن نتوقف عند احتمال صعب كهذا: لقد طور المجتمع الإسرائيلي آليتين، للتعامل مع خطابنا المتحدي: هنالك مضامين متحدية لكنها تمر 'بردا وسلاما'، و'دون أي ردة فعل'،  كونها ضمن سقف سياسي مسموح، يروِّض معناها المتحدي ويخفف منه، فتخرج من وعيه وذاكرته 'بردا وسلاما'، تماما كما دخلت 'بردا وسلاما'. وهنالك ما يخرج عن 'السقف المسموح'، فـ'يصدمهم'، لكنهم يتوقفون عنده، و'يهتمون' به، وتفتح عندها إمكانية استثمار هذا 'الاهتمام' باتجاه فتح نقاش جدي حول أسئلة المساواة والانتماء.

أقول ذلك لاعتقادي بأنه ما يصدم الإسرائيليين ما كان ليصدمهم، لو أنهم استوعبوا فعلا عشرات الرسائل 'غير الصادمة' قبله، والكافية لتأسيس فهم حقيقي لموقعنا من الصراع. يقول الأديب جبران خليل جبران: نصف ما نقوله ليس له معنى لكننا نقوله لنتمم معنى النصف الآخر. وهنا قد نقول: نصف ما نقوله قد يبدو فائضا عن الحاجة، لكن يبدو أن علينا أن نقوله لنثبت معنى النصف الآخر.

القضية، بالنسبة لأي مدافع عن حق، هي أن تثبت الفكرة، وأن تؤثر سياسيا، وليس أن 'يمر التصريح بسلام'. مرة أخرى، وبكل الطرق علينا أن نؤكد أننا نصر على 'ممارسة' هويتنا  بكل أبعادها، وذلك يتضمن دعم نضال شعبنا ضد الاحتلال وضد الحصار ومن أجل حريته، وأننا لا نرى في نضاله إرهابا، بل نرى في الاحتلال إرهابا. قضية 2003 كانت حول الحق في المساواة، وقضية 2015 كانت حول الحق في الانتماء، واثنتاهما ترجمة لمشروع التجمع 'هوية قومية، مواطنة كاملة'.

ونحن لها... موحدين وثابتين...